(قناطر زبيدة) قطعةٌ مِنْ عالم الخيال
مررتُ يوماً بجانب تلك القناطر التي ترتفع عن النهر عشرات الأمتار، ولم أستطع نسيانها.. أردتُ التوقف ولو قليلاً، لكني خجلتُ أن أطلب ذلك، وعدتُ إليها بلهفة، أصوِّرها وأفكِّر بذكاءِ مَن بناها، بهندستها ومتناتها والحاجة إليها. أتخيّلها كيف كانت، وكيف آل بها الزَّمان على هذا الحال. ليتَ الحجارة تتكلَّم لتُخبرني ما أودُّ معرفته.

بدأتُ أمشي من مكانٍ لآخرَ مُحاوِلةً أنْ أُنهيَ عملي بأسرع وقتٍ، دون أنْ أنسى مشهداً ما، فاضطُرِرتُ للمشي مسافاتٍ طويلة، ومن ثم القفز عبر الحاجز الحديدي لتحديد الرؤية قدر المستطاع، لكنَّ الصورةَ مهما كانت جميلةٌ، فهي لن تكونَ إلا صامتة، لا نستطيع سماع شلالاتها، ولا ترنيمة عصافيرها، ولا الإحساس بالانتعاش بهوائها، ولا المرور بين زهورها وشجيراتها، ولا تحت قناطرها العتيقة.. لذلك تعالوا بأنفسكم للاستمتاع بالمشهد بكلّه دونما نقصان.

وادي قناطر زبيدة الأثري، في أعالي منطقة الحازمية، ما يزال يتنفّس بين مرتفعين، وجباله الصخرية ما تزال تحارب البناء العشوائي لتبقى، وحجارة البناء المتهالكة، تسمح لك بالمرور تحت هيبتها العابقة بالتاريخ. كيفما ترمي بنظرك يتجه نحو مشهد جميل، كم وددتُ لو كان هناك موظفٌ تابع لمديرية الآثار، ليُخبِرني عن سبب بناء هذا الجسر العظيم على عدة طبقات. هل هو جسر في أعلاه وممر مائي فوق آخر؟ هل كان مستوى مياه النهر أعلى بكثير مما هو عليه الآن؟ وهل صعبٌ أن يُعاد بناء ما تهدَّم منه؟ وأسئلة كثيرة لا أجرؤ على قولها، فقط لكي لا أترك مجالاً للسُّخفاء والسَّطحيين للرد.
سحرتني المَشاهد من بعيد، ولم أكن أعرف تاريخ هذا الوادي، ولو قرأتُ لمَا صدَّقت، فنحن اعتدنا أن نقول: فلانٌ بنى كذا بتاريخ كذا. وقد يكون أصلاً قد بناه على أساسٍ قديم، هناك مَن اجتهد لبنائه قبله، لكنْ ورغم ذلك سأستعين بصديقنا ڠوڠل الذي يُعرِّف هذه المنطقة بالتالي:
"أنشأت الست زُبيدة، زوجة طريفون (ملك السريان)، في القرن الثالث قبل المسيح، قناطر لجر مياه نهر إبراهيم إلى مختلف مناطق الساحل اللبناني، وقد بُنِيت هذه القناطر بدقة وإحكام حتى قال فيها الشيخ طنوس الشدياق: إنها عجيبة الأساس والبناء".
رغم أنه من المستحيل أن تُجرّ المياه إلى "مختلف مناطق الساحل اللبناني"، وربما لمناطق قريبة فقط، إلا أن القناطر حقاً عجيبةٌ، ترتفع بجبروت من النهر حتى ما فوق الطريق المستحدث تحت إحدى قناطرها. تشمخ من نهرٍ ما يزال يتمتع بقوته شتاءً، جارفاً صخوراً عملاقة من هنا وهناك، متحدِّياً رؤوسنا العفنة الممتلئة بالنفايات، وعيوننا التي ما عادت تميز روائع الصور الطبيعية.

نعم، عندما أردتُ التصوير عن قرب، فإذا بي أرى النفايات من أعلى الجبل تنحدر نزولاً، من المنازل الفخمة التي تظن أن ساكنيها هم أنظف الناس، ونعم، فالنهر يحمل أوساخ القاطنين على جانبيه مُعتقداً أنه إن احتفظ بها على ضفَّتيه سنراها ونخجل من أنفسنا. تتساءل عندما تمرُّ بالقرب من هذا النهر المتذاكي على كل من سبقونا من المثقفين: هل يخجل بنا ونحن أصحاب الأرض لا نحترمه ونرمي فيه كل "وسخنا"؟ هل يودُّ لو يضرب كل واحدٍ منَّا على رأسه ويديه حتى "نقول خلص"؟

لا أيها النهر العظيم، الماكث هناك منذ آلاف السنين. نحن لا نخجل من نفاياتنا، ولا من رميها أينما كان ولا كيفما كان. نحن شعبٌ لا يستحي، لا من أقوالٍ ولا من أفعال. نحن شعبٌ نتصرف كيفما نريد، ودون موانع، ولا نعرف العيب. هذا هو حال معظم الشعب اللبناني، مع أملي بأن لا يُصبِح شبيهاً بِنا أي شعبٍ يعيش معنا تحت سماء لبناننا الحبيب.
سهير قرحاني
محمد سليم سعيد بخش
"القاضي جوني قزّي.."رحلة العمر إلى الجنسية
branding
بغداد احتفلت بابنها النجم هُمام، وهو كرّم الراحلة الكبيرة وردة
عبير الزمان
وائل كفوري.. طفل قضى 40 عاماً من حياته بعد الرابعة دون أن يكبر