فلسطيني بلا هوية لـِ صلاح خلف.. (5) الجزر/الجزء الأول
فلسطيني بلا هوية لـِ صلاح خلف (5) الجزر/الجزء الأول
دقت معركة جرش وعجلون ناقوس نهاية المقاومة الفلسطينية في الأردن. فعلى مدى الأيام الخمسة الممتدة بين 13 و 17 تموز ـ يوليو 1971، راح نحو من ثلاثة آلاف فدائي - متحضنين في الغابات والهضاب المكسوة بالأشجار في هاتين الناحيتين الواقعتين في شمال المملكة - يقاتلون حتى الطلقة الأخيرة، ببطولة خارقة، ضد قوات الملك حسين الهائجة المنفلتة العقال، والتي كانت مذابح أيلول ـ سبتمبر 1970. فكانت الدبابات والمدرعات تطلق النار لتقتل ثم تسحق الناجين في عبورها.
وقد رفض القائد المحلي، أبو علي إياد، عضو اللجنة المركزية في فتح أن يستسلم. لكنه أسر على إثر عملية مطاردة هائلة، فعذب ومثل به ثم قتل. وطالت المجزرة بالكامل حوالى سبعمئة فدائي: ووقع نحو ألفين آخرين في الأسر، وسلموا في وقت لاحق إلى سلطات دمشق، وأفلح نحو مئة في اللجوء إلى سوريا أو أنهم ـ لعظيم المذلة ـ لجؤوا إلى الضفة الغربية المحتلة، حيث وافقت السلطات الإسرائيلية على منحهم حق اللجوء.
وهكذا انطوت إحدى أكثر صفحات المقاومة دموية، وهكذا أيضاً انتهى عصر زهو الحركة الفلسطينية، الذي كان انتصار الكرامة في آذار ـ مارس 1968 أحد ذراه بلا نزاع. فقد مر ما يزيد عن ثلاث سنوات على يوم راح الملك حسين، الذي بهرته تلك المأثرة، يهتف قائلاً: «كلنا فدائيون»! فكيف وصلنا إلى حيث وصلنا؟ صحيح ولا ريب، أن العاهل الهاشمي لم يكن شغوفاً بنا، وأنه برغم جميل كلماته، لم ينفك عن الدسيسة لإيرادنا مورد التهلكة، إلا أننا ساعدناه مساعدة عظيمة على بلوغ هدفه، حين تعاظمت أخطاؤنا في التقدير، وكبواتنا، بل، ولم لا نقر ونقولها بصراحة؟ واستفزازيتنا. غير أنه يظل أن الصِدام كان أمراً مقضياً بحكم الأشياء ولا مفر منه.
كان الظن يسيطر على الملك حسين. فكان يعتقد، ورغم تضميناتنا المتكررة، أننا نسعى إلى سلبه السلطة. ولا ريب في أن بعضاً من المحيطين به، بل وبعض الشخصيات الأجنبية أيضاً، كانوا يغذون هذا القلق، بقصد أو بغير قصد. وهكذا مثلاً، فإن الملك الحسن الثاني قال له ذات يوم، أنه يعتبر تسلم الفدائيين للسلطة في عمان أمراً طبيعياً. وإذ صدمته كلمات العاهل المغربي، فإنه راح يسأل ياسر عرفات بعد ذلك بقليل، عما إذا كان يطمح حقاً إلى الحلول مكانه! مع أننا لم ننفك نؤكد له أن فتح ألزمت نفسها منذ تأسيسها بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان المضيفة للفلسطينيين، وأن دعمه للحركة الفلسطينية يجعل منه بطل الأمة العربية. كان حسين يقتنع نصف اقتناع بحسن نوايانا فيتأرجح بين الشك وعدم التصديق. وبدأت علاقاتنا به تتوتر في منتصف شهر تشرين أول ـ أكتوبر 1968 بعد مصرع رفيقنا عبد الفتاح حمود ـ الذي كان أحد أوائل القيادات لفتح ـ بحادث سيارة. كنت أنا وثيق الصلة بحمود منذ مطلع سنوات الخمسين. فقد انتخب في ذات الوقت الذي انتخبنا فيه، ياسر عرفات وأنا، في قيادة اتحاد الطلبة الفلسطينيين، فلم ينقطع عن النضال إلى جانبنا، في القاهرة أولاً ثم في قطر، حيث شغل مناصب هامة كمهندس. ورغم أنه والد لسبعة أطفال، فإنه عرض غداة حرب الأيام الستة، أن يترك وظيفته المجزية جداً ليصبح «متفرغاً» في الحركة. وكان في اليوم الذي قضي فيه نحبه، على موعد مع عرفات ومعي في إحدى النواحي الأردنية القريبة من الحدود السورية. ولعلمي بدقته في مواعيده فإن القلق بدأ يعتريني عندما لم يأت في الساعة المتفق عليها. ولم ألبث أن أنبئت بأن حادثاً خطيراً قد وقع على الطريق، على مسافة غير بعيدة من البيت الذي كنا سنلتقي فيه. ولتوجسي ما هو أسوأ، وخشية مني في أن أكون شاهداً لمشهد لا طاقة لي باحتماله، فإني طلبت إلى عرفات أن يذهب بمفرد إلى مكان الحادث. وعاد عرفات باكياً. كان عبد الفتاح حمود الذي لم يكد يبلغ الخامسة والثلاثين من العمر، قد لقي مصرعه وراء مقود سيارته.
وقررنا أن تسير جنازته في عمان، حيث ظهرنا فيها للمرة الأولى. وهناك ألقيت أمام عشرات الألوف من الأشخاص الذين جاؤوا ليودعوه الوداع الأخير، خطاباً يثني على صنيعه وصنيع المقاومة. وكان أن قلق الملك حسين من هذه التظاهرة العامة في عاصمته، وبدأ يحيك وينفذ المؤامرة التي ستفضي بعد أقل من عامين، إلى نزاع مسلح في أيلول ـ سبتمبر 1970.
وبعد مرور شهر على جنازة عبد الفتاح حمود، في تشرين ثاني ـ نوفمبر 1968، جرى اختطاف ضابط من الحرس الملكي الأردني على يد منظمة سرية تدعي أنها فلسطينية، ولكننا لم نسمع بها قبل ذلك مطلقاً. وإنما عرفنا بعد ذلك بكثير، أنه جرى تكريم الفريق المذكور وتمويله وتسليحه على يد المخابرات الأردنية. بقي أن الملك حسين وضع جيشه في حالة استنفار، وهدد باقتحام مخيمات اللاجئين لإلقاء القبض على الخاطفين وتحرير رهينتهم. فكان أن طلب فريق من قادة مختلف المنظمات الفدائية ـ بينهم ياسر عرفات ويحيى حموده وبهجت أبو غربية وحامة أبو سته وأنا ـ مقابلته بغرض ثنيه عن ذلك. وكانت تلك أول مرة أقابل الملك فيها شخصياً.
وقد أفادتني المحادثة ـ التي ظللت صامتاً خلالها لأعاينه معاينة أفضل ـ إفادة بالغة حول شخصية الملك حسين. فرغم أنه كان يعلم علم اليقين أنه لا يد لنا ولا علاقة في اختطاف ضابط الحرس الملكي، فإنه أظهر استياءه بقوة، وراح يغضب غضبات مفاجئة تستحيل أحياناً إلى بدايات حركات عنيفة. ولقينا الكثير من العناء في تهدئته. واحتججنا ببراءتنا وأوضحنا له أننا نجهل كل شيء عن المنظمة التي تدعي القيام بهذه المحاولة، التي ندينها نحن على أي حال بمنتهى الشدة والحزم. ثم أكدنا له مجدداً على إرادتنا في الحفاظ على علاقات جيدة مع السلطات الأردنية. وفي النهاية أذعن الملك وأصدر أوامره لقواته برفع حصارها عن مخيمات اللاجئين. وإنما تأجل الأمر مجرد تأجيل كما ستثبت ذلك الأحداث. وقد تصرف حسين بكثير من المهارة والخداع. فراح يعد الرأي العام ويعد جيشه خصوصاً، بصبر ومنهجية للمواجهة التي يتمناها، فيغذى التوتر ويثير الأزمات، ليس بمعونة الفصائل المفروضة على المقاومة التي كونتها مخابراته وحسب، بل إنه كان يستفيد من العملاء المحرضين المهندسين في المنظمات الفدائية.
وكان بعض هؤلاء يشغلون في هذه الأخيرة مناصب ذات تبعات كما سنكشف ذلك فيما بعد، ففي حزيران ـ يونيه 1970 مثلاً، استدعاني عبد المنعم الرفاعي ــ وهو رجل غاية من النزاهة ـ إلى مكتبه بعيد تشكيله الحكومة، وراح يسمعني تسجيلاً لخطاب ألقاه عشية ذلك اليوم، أبو الرائد عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي يرأسها الدكتور جورج حبش. كان أبو الرائد يهاجم في خطابه بعبارات مبهمة، لا الملك وحسب، وإنما زوجته ووالدته. وكان الخطاب من البذاءة بحيث أنني لم أطق الإصغاء للتسجيل إلى آخره.
ثم أطلعني عبد المنعم الرفاعي على رسالة من الملك يطلب فيها من رئيس وزرائه أن يقفل كافة مكاتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإلا عهد للجيش بذلك. فأسرعت إلى القصر الملكي لأوضح لحسين بأننا مضطرون برغم التقزز الذي يثيره فينا أبو الرائد، أن ندافع شأننا في ذلك شأن الجماهير الفلسطينية، عن حق الجبهة الشعبية في الوجود، أما هجوم قوات الأمن. ومرة أخرى تراجع الملك خطوة ليعاود الوثوب خطوات. وإنما اكتشف أمر أبي الرائد كعميل للمخابرات وطرد من منظمته بعد ذلك بكثير.
ومن جهة ثانية، فإن الانقسامات داخل المقاومة، ساعدت الملك في مخططاته. فبعد مرور بضعة أشهر على حرب الأيام الستة، ظهرت إلى حيز الوجود عدة منظمات فدائية، غالباً ما كان هدفها الوحيد، هو اختطاف قيادة الحركة من فتح. كما أن بعضاً منها لم يكن سوى انبثاق وتعبير عن الأنظمة العربية التي كانت تسعى إلى نقل خصوماتها وصراعاتها إلى المسرح الفلسطيني.
وإذ ذاك باتت المواقف الديماغوجية والمزايدات أمرأ محتوماً، وبات كل فريق يحاول أن يظهر أنه أشد «ثورية» وأوفى تصلباً من جاره. وما زلت أذكر أن ممثلي بعض المنظمات الفدائية لم يكونوا يترددون، في بعض اجتماعات العمل المعقودة مع حسين، في أن يستشيطوا غضباً، ويضربوا الطاولة بقبضاتهم ويقدحوا في أعضاء العائلة الملكية، فيتهمون خال الملك، الشريف ناصر مثلاً، بتهريب المخدرات. فكنت أجهد في مثل هذه الحالات، بأن أعيد رفاقي إلى جادة الصواب موضحاً بأن سلوكهم لا يمكن أن يخدم إلا أخصامنا، وعلى رأسهم الملك.
وكان من الصعب في بعض الأحيان تمييز التطرف السياسي، من الاستفزاز الذي يدبره العلماء المأجورون. فازدهار الشعارات اليسارية ـ شأن ذلك الشعار الذي يدعو الجماهير إلى إيلاء «كل السلطة للمقاومة» ـ وتوزيع صور لينين في شوراع عمان وحتى داخل المساجد، والدعوات إلى الثورة وإقامة نظام اشتراكي، كل ذلك كان ينم عن عدم وعي إجرامي. كان المتطرفون يتنافسون في الخلط بين معركة التحرر الوطني التي تقصر فتح دعوتها عليها، وبين الصراع الطبقي.
ومن الصحيح كذلك أن سلوكنا نحن لم يكن غاية في التماسك، فرغم أننا كنا نسعى وراء الحصول على دعم كل السكان - بدون تمييز لأصلهم - إلا أننا كنا نأخذ منحى إهمال الأردني الأصل، لصالح الفلسطينيين. ثم إن الفدائيين الذين كانوا فخورين بقوتهم ومآثرهم، كثيراَ ما أظهروا شعوراً بالتفوق، وأحياناً بالغطرسة بدون أن يأخذوا حساسيات ومصالح الأردنيين بعين الاعتبار. والأخطر من ذلك كله، هو موقفهم إزاء الجيش الأردني الذي كان يعامل كعدو، أكثر مما يعامل كحليف ممكن. غير أن الصحيح كذلك، أن حسين تفنن في حفر الهوة بين الفدائيين والقوات الملكية. وذلك بإثارة الصدامات الدموية أولاً، ثم بمنح الضباط والجنود الذين شاركوا فيها إجازات جماعية أثر كل معركة. فكان هؤلاء يصطدمون لدى عودتهم إلى منازلهم بعداوة مقاتلينا، التي يمكن أن تفهم على كل حال. ولما كان العسكريون يجدون أنفسهم مهانين مذلين مخزيين، وأحياناً معتقلين، فإن تشوقهم إلى الصدام معنا كان يزداد. وقد علق الملك على تكاثر هذه الحوادث في الأشهر الأولى من عام 1970 مفسراً سلبيته الظاهرة إزاءها لأحد المقربين منه، قائلاً: إني أمد لهم (أي للفدائيين الحبل الذي سيشنقون به..) وبلغ التوتر أوجه في شهر تموز ـ يوليو 1970، عندما دعونا لعقد دورة استثنائية لمجلس المقاومة المركزي الذي يضم ممثلي نحو اثنتي عشرة منظمة. وفور انعقاد الاجتماع، طرحت على رفاقي سؤالين: هل ترغبون بالاستيلاء على السلطة في عمان؟ وإذا كنتم ترغبون في ذلك، فهل تقدرون؟ إن نسبة القوى تتيح لنا الظفر؟ وأجابوا في غالبيتهم بالنفي على كلا السؤالين. فهم يعتقدون من جهة أولى، إن على المقاومة أن تتلافى الوقوع في شرك مسؤوليات الدولة والبيروقراطية، كما أنهم من الجهة الثانية مقتنعون بتفوق القوات الملكية الساحق.
وبهذا، فإنهم أكدوا اقتناعي بان التكتيك يحل لدى غالبية أعضاء المجلس المركزي محل الإستراتيجية. ومن هنا كان الغموض الخطر في سياستهم التي كانت تقودنا وفق قناعتي، إلى كارثة مباشرة. والحل هو: أن الملك، كما أوضحت حينذاك، لن يتحمل طويلا السلطة الموازية التي أقمناها في مملكته. فكان لا بد لنا من أن نختار خياراً واضحاً يتفق مع تحليلنا ومع إستراتيجيتنا. فإذا كان من الصحيح أننا لا نريد قلب النظام الملكي، وأنه على أية حال أعصى من أن يقهر في اللحظة الحالية، فإنه يكون من الواجب الملح علينا كما رحت أؤكد، أن نعيد علاقاتنا مع حسين إلى طبيعتها قبل أن يفوت الأوان.
وبعد أن أنهيت عرضي، توجهت نحو بوابة الخروج وأنا أقول للمجتمعين: «من كانت تهمهم مصلحة الشعب الفلسطيني فليتبعوني فنذهب معا للتفاوض مع القصر على نمط تعايش»! فبقي معظمهم مسمرون، بينما غادرت قبضة من مندوبي مختلف المنظمات الأخرى غير فتح، قاعة الاجتماع برفقتي. ولن يفهم تهافت وتناقض غالبية مجلس المقاومة المركزي، إن لم أضف أنهم مقتنعون بأن الملك لم يجرؤ على مهاجمة الفدائيين المنتشرين في العاصمة وفي البلاد، خشية أن يوقع مجزرة بالسكان، كما أن بعضاً منهم كان يعتقد أن الجيش الملكي، أو جزءاً هاماً منه على الأقل، سيتمرد إذا ما تلقى الأمر بأن يطلق النار على أعداد الناس عشوائياً.
أما أنا، فكنت شخصياً مقتنعاً بالعكس. فالملك قد أمن ولاء ضباطه، بعد أن غمرهم بالامتيازات المادية. كما كان الجنود جميعاً ـ بما في ذلك الفلسطينيون الذي يشكلون قرابة القوات الملكية وليس 60 بالمئة منها كما يكتب عادة ـ معبئين ضد حركة الفدائيين بدعاية ذكية. كانت هذه الدعاية تظهرنا كملحدين وأعداء الله، وشيوعيين يتعاونون تعاوناً وثيقاً مع قوى دولية مريبة بما في ذلك يهود اليسار المتطرف. وكنا نسعى، وفق ما يقوله ثالبونا، إلى الاستيلاء على السلطة لصالح قوى أجنبية، لا للدفاع عن مصالح الشعب الفلسطيني. وبرغم هذه التعبئة، فإن حسين احتاط وأبعد الفلسطينيين عن صفوة الوحدات العسكرية وخصوصاً عن المدفعية والمدرعات التي استخدمها استخداماً واسعاً في معارك أيلول ـ سبتمبر 1970 وتموز ـ يوليو 1971 في جرش وعجلون.
ومما زادني قلقاً على قلق، هو أن الملك حسين لن يبدو في نهاية شهر آب ـ أغسطس واثقاً من نفسه ثقة لها ما يبررها، فبعد أن التحق، شأن عبد الناصر، بمشروع التسوية مع الإسرائيليين، الذي ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الخارجية الأميركية ويليام روجرز، فإنه بات يتمتع بدعم قوي على ؟؟؟؟؟ الدولي، وخصوصاً في 7 آب ـ أغسطس، أي بعد مرور أسبوعين على دخول وقف إطلاق النار ـ الذي أنهى حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية ـ الإسرائيلية بين البلدين ـ حيز التنفيذ، ذهب حسين إلى الإسكندرية، حيث حظي باستقبال حار من قبل عبد الناصر. ولدى عودة الملك إلى عمان، أشاعت السلطات الأردنية، أنه أخذ من الرئيس المصري الضوء الأخضر لسحق الحركة الفلسطينية التي وقفت بالإجماع ضد مخطط روجرز وقرار الأمم المتحدة رقم 242 الذي يرتكز المخطط عليه.
غير أن مجلس المقاومة المركزي كان منقسماً بشأن الموقف الذي ينبغي اتخاذه من عبد الناصر. فهل ينبغي أن نتصادم مع النظام المصري؟ وأجابت الغالبية التي تؤيد السياسي المغامرة على هذا السؤال بالإيجاب. أما فتح، ومعها منظمة الصاعقة الموالية لسوريا وبعض المستقلين، فكانت على العكس من ذلك، مصممة على عدم قطع الجسور مع مصر. ومذ ذاك، قررنا إرسال مندوبين إلى عبد الناصر سعياً وراء نمط تعايش.
وثمة أسباب عدة كانت تدفعنا إلى القيام بهذا المسعى. فمن الناحية التكتيكية، كان الهجوم على (الريس) عملاً انتحارياً من قبلنا في ظرف نتعرض فيه لخطر تلقي طعنة في الظهر من حسين. كما أنه لم يكن في وسعنا من الناحية الاستراتيجية أن نسمح لأنفسنا بقطع علاقاتنا مع أقوى البلدان العربية، والتي كان وزنها الدولي الداخلي والمحلي ثميناً بالنسبة إلينا. ثم إننا كنا، فضلاً عن ذلك، نثق بوطنية عبد الناصر. وكنا نعرف أنه لن يخوننا لأنه سبق له وأعلن جهاراً بأنه يفهم تماماً طرح المقاومة للقرار 242 ورفضها لذلك النص الذي لا يستجيب بأية صورة من الصور إلى تطلعات الشعب الفلسطيني.
كان الوفد الذي ذهب إلى الإسكندرية يضم ياسر عرفات وفاروق القدومي وهايل عبد الحميد وأنا (عن اللجنة المركزية في فتح) وضافي جمعاني (عن اللجنة المركزية في فتح) وضافي جمعاني (عن الصاعقة) وإبراهيم بكر (مستقل). واستقبلنا عبد الناصر ببعض الفتور ثم قال لنا لفوره «لقد تنزهت في حديقتي طوال ساعة لأتمالك غضبي وأنا استقبلكم». كان غاضباً من الهجمات التي كان يتعرض لها في منشورات فتح، والتي أظهر لنا نماذج منها، كانت مبعثرة على مكتبه. ثم أضاف أنه لا يحق لنا أن ننتقده قبل أن نعرف البواعث التي دفعته إلى قبول مخطط روجرز.
وأشار خلال المحادثة التي دامت أكثر من سبع ساعات، إلى أن هناك إمكانية بنسبة واحد بالألف في أن يتحقق مشروع السلام الأميركي، لأنه يعلم مقدماً أنه ليست لدى إسرائيليين النية مطلقاً في احترام التزاماتما وإعادة الأراضي المحتلة بكاملها. ولكنه سيواصل رغم ذلك جهوده للتوصل إلى تسوية سلمية. وبانتظار ذلك، فإنه لا بد له من كسب الوقت ليستعد للحرب التي تبدو له الوهلة الأولى أمراً لا مناص منه. وأضاف أنه خلال زيارته الأخيرة لموسكو طالب بتسليم مصر صواريخ سام 7، وحصل عليها بعد أن هدد بالاستقالة. ثم أفضى لنا بأنه «سوف نستغل وقف إطلاق النار الساري حالياً، لنضع هذه الصواريخ على طول قنال السويس».
وروى لنا أن القادة السوفيات اندهشوا في بادئ الأمر من انضوائه تحت راية مشروع أميركي وعرضوا عليه كبديل مشروعاً تقدمه له موسكو وواشنطن سوية. فرفض المشروع موضحاً لمحادثيه بأنه يريد أن «يحرج» الولايات المتحدة التي التزمت لأول مرة منذ حرب حزيران ـ يونيه 1967، بجلاء الإسرائيليين الكامل تقريباً عن الأراضي التي غنموها. وأضاف: أن ميزة القرار 242، هو أن نصدق على حق العرب في استعادة أراضيهم المفقودة، بإقرار دولي. ثم استطرد عبد الناصر يقول بلهجة ساخرة وهو يلتفت نحو ياسر عرفات: «كم تظن أنه يلزمكم من السنين كي تدمروا الدولة الصهيونية وتبنوا دولة موحدة ديمقراطية على كامل فلسطين المحررة»؟ وأخذ علينا ممارستنا لسياسة غير «واقعية» وقال أن دويلة في الضفة الغربية وغزة، وهي خير من لا شيء.
دارت المحادثة في الجزء الأعظم منها في جو حبي أولاً ثم ودي بعد ذلك، وبدا عبد الناصر مرتاحاً، ودعانا إلى العشاء على مائدته. ثم أبدى لنا قلقه من الوضع في الأردن. وقال لنا: «أنا أعلم أن المخابرات الهاشمية أشاعت أنني شجعت الملك حسين على ضربكم. إن العكس هو الصحيح. فقد حذرته حلال زيارته الأخيرة للقاهرة من مثل هذه المحاولة مرتين. مرة في اجتماع مغلق، ومرة ثانية بحضور رئيس وزرائه عبد المنعم الرفاعي».
وغادرنا الإسكندرية ونحن نصف مطمئنين، إذ لم يكن يعدو أن الملك حسين يأخذ تحذيرات عبد الناصر بعين الاعتبار، لأنه كان يقوم بدك مراكز المقاومة. وانتهت المعارك المتفرقة وشبه اليومية، والريبة المخيمة، بأن أرهقت الرأي العام الذي بدأ جزء منه يظهر تبرمه بالفدائيين الذين بات يعتبرهم مسؤولين عن الصدامات. وفي مناخ الأزمة هذا، عمدت الجبهة الشعبية في 16 أيلول ـ سبتمبر إلى اختطاف أربع طائرات، وقادتها إلى مدرج هبوط في الأردن بعد أن عمّدته باسم «مطار الثورة» موجهة بذلك إهانة جديدة للملك.
وبدت لنا العملية على أرفع قد من الشبهة، شأن قرار رئيس الجبهة الشعبية، الدكتور جورج حبش، بمغادرة عمان قبل ذلك بشهر وفي وسط الأزمة، ليقوم.. «بزيارة ودية» إلى كوريا الشمالية. كانت ضربة عتو تضع المقاومة بمجملها في منصة الاتهام معطية بذلك حسن الذريعة التي كان يحلم بها لينتقل إلى الهجوم. فحتى العراق الذي كان مؤيداً لنا من حيث المبدأ، وجه ضرباً من الإنذار لفتح، طالباً توقيف قراصنة الجو وإطلاق سراح الرهائن، ذلك أنهم كانوا يعزون إلينا سلطاناً، ما كنا نملكه في الواقع. ولم يفلح ياسر عرفات في الحصول الأعلى «تعليق» عضوية الجبهة الشعبية في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكن هذا الإجراء بدأ قميئاً بصورة مثيرة للسخرية بعد تدمير الطائرات المخطوفة بالديناميت، واحتجاز بضع عشرات من المسافرين بينهم نساء وأطفال.
وعمت المعارك شمال الأردن حيث راحت المدفعية الملكية تقصف مكاتبنا قصفاً منتظماً. كان علينا أن نرد وأن نسرع في الرد. والغريب هو أن العراق كان يحرضنا على الاستيلاء على السلطة. فقد جرى تقديم عرض ملموس لنا بهذا المعنى قبل اختطاف الجبهة الشعبية للطائرات ببضعة أشهر. فخلال زيارة رسمية لعمان، التقى وفد يمثل نظام بغداد ويضم ثلاثة من أبرز أعضائه نفوذاً هم: عبد الخالق السامرائي وزيد حيدر ـ عضوا القيادة في حزب البعث ـ ومهدي عماش وزير الداخلية، بياسر عرفات وبي في شهر أيار ـ مايو بقاعدة الحبانية. وقال لنا موفدو بغداد: « نظموا محاولة انقلاب، فستدعمكم الوحدات العراقية المرابطة في الأردن لقلب النظام الملكي وإقامة سلطة شعبية» وكان في مشروعهم أن تحتل هذه الوحدات الزرقا وإربد في الشمال بينما يستولي الفدائيون على عمان.
كان شعور عرفات وشعوري هو أن هذا العرض تعوزه الجدية. واقترحنا على محادثينا الحصول بادئاً على تأييد سوريا، وإذا أمكن مشاركتها في المشروع وكنا نعلم أن التفاهم بين بغداد ودمشق أمر مستبعد عملياً بالنظر إلى المنافسات والخصومات بين العاصمتين. ثم تبيت أن ريبتنا كانت في موضعها عندما لاحظنا سلبية الجيش العراقي أثناء الحرب التي ستندلع بعد ذلك بأيام بين الفدائيين والقوات الملكية. وهكذا، فقد حاولنا كل ما تمكن محاولته في الأسبوعيين الأولين من أيلول ـ سبتمبر أن نتلافى المواجهة. فدخلنا في مفاوضات مضنية دارت تحت رعاية توسيط من الجامعة العربية هو الوزير السوداني السابق أمين الشلبي. وكنا ما نزال في 14 أيلول - سبتمبر نتردد في الانضمام إلى اتفاق تسوية كان يبدو لنا جائراً متعسفاً، حين خابرني عبد المنعم الرفاعي بالهاتف. كان صوته في الطرف الآخر من الخط عصبياً قلقاً. وقال لي رئيس الوزراء «وقعوا الاتفاق بالغاً ما بلغت الكلفة» دون أن يقدم أية تفسيرات، ثم أقفل الخط.
كنا نثق بالرفاعي الذي لم يكن وفاؤه للملك ينال من رأفته وتساهله مع المقاومة وإلا فإنه سيشن علينا حرباً عامة. فذهبت لفورى إلى القصر ووقعت بروتوكول الاتفاق كما قدم إلي ثم أبلغت الرفاعي بذلك للحال فأذاع النص مباشر من إذاعة عمان. وحسبنا عند ذلك أننا تلافينا الأسوأ.
لكننا كنا مخطئين، ذلك أن الملك أقال حكومة الرفاعي في صبيحة اليوم التالي، وكلف اللواء، محمد داود، الفلسطيني الأصل، بتشكيل حكومة حرب، كان كامل أعضائها من العسكريين. وفي اليوم ذاته، شنت وسائل الإعلام ولا سيما الإذاعة والتلفزيون حملة استغاثة إلى كافة رؤساء الدول العربية. لكن، كان الأوان قد فات. ففي غداة اليوم التالي، شنت القوات الملكية هجوماً عاماً ضد الفدائيين غير مترددة في قصف كافة أحياء عمان قصفاً عشوائياً.
وهكذا ومهما بلغت الغرابة في ذلك، إلا أننا لم نكن مستعدين لمواجهة هذا الامتحان رغم أنه كان متوقعاً منذ بضعة أشهر. كان عدد من مسؤولي المقاومة يعتقدون اعتقاداً راسخاً لا حدود له، بأن حسن لا يجرؤ على ذلك، وإنما تشكلت قيادة موحدة من مختلف التنظيمات الفدائية قبيل بدء المعارك ببضع ساعات، إلا أن جيش الملك احتل مقر قيادة فتح العسكرية العامة، خلال دقائق. كنا قد أقمنا مقر القيادة هذا في جبل الحسين. وهو دحي سهل الاتيان على نحو خاص، في حين أنه كان بوسعنا أن نقيم في حي الأشرفية الذي يعصى عملياً على كل اقتحام.
وذهبت إلى مقر العمليات العسكرية، الذي كان يقع هو الآخر في جبل الحسين، ولكنه لم يسقط بيد القوات الملكية. ووجدت هناك ياسر عرفات الذي كان يحاول يائسا الاتصال بالملك بالهاتف، في حين أن القذائف كانت تتساقط حولنا كالمطر، وقلت له: أقفل الهاتف فالهاتف لا يجدي نفعاً، إن أحداً لا يريد حتى أن يخاطبك! كنت مصيباً فيما أقول. فقد طلب الكلام مع الملك ثم من عدة من أعضاء بطاتنه واحداً بعد واحد، فكان جوابهم جميعاً هو أنهم يؤدون صلاة الصبح ولا يريدون أن يزعجهم مزعج.
Im more than happy to discover this site. I want to to thank you for your time for this particularly fantastic read!! I definitely really liked every ...
awwal khabar
مذكّرة توقيف فرنسية بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حملت مجموعة "أوميڠا" على الاحتفال أمام منزله بالمفرقعات النارية
https://stevieraexxx.rocks/city/Discreet-apartments-in-Ashdod.php
مذكّرة توقيف فرنسية بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حملت مجموعة "أوميڠا" على الاحتفال أمام منزله بالمفرقعات النارية
محمد سليم سعيد بخش
"القاضي جوني قزّي.."رحلة العمر إلى الجنسية