فلسطيني بلا هوية لـِ صلاح خلف (3) إنفجار التيار الجزء الأول

فلسطيني بلا هوية
لـِ صلاح خلف
(3) إنفجار التيار
الجزء الأول
كنا في العاشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1959، بضعة أشخاص مجتمعين في منزل سري في الكويت لإيقاف فتح على قديمها. وسيتلو اجتماعنا هذا، انعقاد عدد آخر من الاجتماعات في الأيام التالية يحضرها مشاركون آخرون (أقل من عشرين شخصاً بالإجمال) وبسرية كاملة دائماً وأبداً. وعلى هذا، فإن ممثلي المجموعات السرية القادمين من مختلف البلدان العربية، أو أمكنة أخرى، كانوا يتشاورون فيما بينهم للمرة الأولى، بهدف مركزة نشاطاتهم ومحورتها. وفي هذا المؤتمر الضيق، جرى التأسيس الشكلي، غير أن مجموع تعداد المناضلين الممثلين في هذا المؤتمر الضيق، لم يكن يبلغ الخمسمائة شخص.
وقد تم يومها إعداد عدة وثائق، وجرت الموافقة عليها خلال اجتماعات تشرين الأول هذه. وتدور هذه الوثائق حول بنى الحركة ونظامها الداخلي واستراتيجيتها وتكتيكها، ووسائل عمل وتمويل الثورة التي ستكون القابلة التي تولدها. وتوضحت مهمات مختلف أجهزة فتح، واتضحت معها الكيفية التي سيجري تجنيد وإعداد الأطر والكوادر على أساسها. أما البرنامج السياسي بحصر المعنى، والذي يحدد الخيارات الكبرى للحركة. فكانت الموافقة عليه قد تمت في مطلع عام 1958. فبعد أن قامت لجنة تكونت لهذا الغرض بتحرير هذه الوثيقة، فإنه جرت مناقشتها وتعديلها ثم الموافقة عليها خلال اتصالات شخصية أو بواسطة المراسلات التي تبادلناها.
كانت الوثيقة تعكس الإجماع الذي كنا قد توصلنا إليه في المحادثات العديدة والمناقشات التي أجريناها خلال سنوات الخمسين في القاهرة وغزة، إلا إنها كانت مبنية كذلك على تجارب من سبقونا في الحركة الوطنية. وبالرغم من أننا لم نقم في تلك الفترة بدراسة منهجية أو بتفكير جماعي حول هذا الموضوع، إلا أن كل واحد منا كان قد استخلص عبر قراءاته الخاصة دروس الماضي وعبره. كانت النتائج التي خلصنا إليها واحدة برغم إن إدراكاتنا وتحليلاتنا للأحداث التي وسمت تاريخ فلسطين يمكن أن تكون غير متماثلة. ثم أن تقديراتنا ستتطور على كل حال وستتضح على مدى السنين.
وفيما يعنيني أنا، فإن تقديري هو أنه ليس من العدل، إصدار حكم إجمالي سلبي على عمل من سبقونا فهم أولاً، لم يكونوا يشكلون كتلة متراصة. كان بينهم كبار البرجوازيين كما كان بينهم أناس متحدرون من أوساط شعبية. وكان بينهم الوطنيون كما كان بينهم الخونة، وكان بينهم صائبو النظر كما كان بينهم من يخطئون أحيانا. وكيف يمكن ـ أي ما كان الأمر ـ إلا يؤخذ بعين الاعتبار سياق حقبتهم، والذهنية السائدة فيها والصعوبات الموضوعية، الحاسمة أحياناً ـ التي كان عليهم أن يواجهونها بدون أن يكونوا حائزين على التجربة الضرورية... ثم إن كثيرين منهم وتلك أمور لا يمكن أن نعزوها إلى الوضع الدولي غير المؤاتي وإلى قدرة العدو ومكره وحقده. فثمة أخطاء جسيمة ارتكبت. فكان كشف هذه الأخطاء وتحليلها تلافياً لارتكابها مجدداً، هو إحدى المهمات التي اضطلعنا بها.
ولا ريب في أنه لم تكن لمن سبقونا الأهمية التي تمتلكها منظمة تتمتع ببنى متينة. فقد ظلت الحركة الوطنية الفلسطينية، حتى ظهور فتح، حركة تقودها شخصيات تنحدر من العائلات الكبرى وخاصة عائلتي الحسيني والنشاشيبي وغالباً ما كانت في حالة شلل، وكثيراً ما تسود بينها المنافسة أو المواجهة عندما لا تتفق على السلوك الذي ينبغي اتباعه. أما المنظمة أو التنظيم، فإنه غالبا ما يكون ـ إذا وجد ـ هشاً ولا يضرب بجذوره في الفئات الشعبية، فكان يضمحل اضمحلالاً تلقائياً عندما يختفي الزعيم، لأن الزعيم هو روحه وركيزته. أما الشعب، فإنه كان يتبع القادة، أو يسبقهم في بعض الأحيان. ويمارس بفضل اللجان المحلية الناشئة عفوياً، مختلف أنواع الصراع كالاضطرابات والمظاهرات، بل وكحرب العصابات. فعصيانات أعوام 1919 و 1923 و 1938 و 1933 و 1936 و 1938 تشهد بروح الأهالي الكفاحية، ولكنها تشهد كذلك بعقم المعركة التي لا يشنها ويقودها ويدعمها جهاز مركزي دائم يتمتع ببنية متينة.
ومن هنا كانت الأهمية الأولية التي أعطاها مؤسسو فتح، لإقامة منظمة شعبية حقاً، تكون قادرة على الاستمرار مهما حدث، وكائناً ما كان مصير هذا القائد أو ذاك.
وثمة خطأ آخر ارتكبه من سبقونا: فهم لم يقدروا أهمية ضم السكان اليهود أو جزء منهم على الأقل، إلى الحركة الوطنية، حق قدرها. فقادة ما قبل الحرب العالمية الثانية كانوا واعين أنهم يخوضون المعركة أساساً ضد المحتل البريطاني، فكانوا يطالبون دائماً وأبداً، ومنذ ذلك الحين، بانسحاب القوات الانكليزية، وبإعلان استقلال وسيادة الدولة الفلسطينية. وكانوا يتهمون حكومة لندن ـ محقين ـ بإثارة النزاع بين العرب واليهود، بإعلانها عام 1917 لـِ وعد بلفور القاضي بإعطاء اليهود وطناً قويماً في فلسطين، وبتغذية هذا النزاع بمختلف الوسائل، لتبرير وضمان دوام سلطتها الاستعمارية. فكان واضحاً أنه لا يمكن لهذه السياسة إلا أن تلحق الضرر بجميع السكان عرباً ويهوداً.
ولا ريب في أنه كان لمفتي القدس الحاج أمين الحسيني، قائد المقاومة الرئيسي لما بين الحربين بلا منازع الفضل في اقتلاع كل أثر للطائفية بين العرب. فقد أفلح في الجمع بين المسلمين والمسيحيين في نفس المعركة ضد الامبريالية. فلماذا لم يحاول أن يقنع اليهود الفلسطينيين بأن مصلحتهم، إذا ما فهموها حق فهمها، تدفعهم إلى التحول عن الأوهام الصهيونية، والتفاهم مع العرب. ولماذا لم تقم النقابات الفلسطينية من جهتها بتشكيل جبهة مشتركة مع العمال اليهود. لا ريب في أنه كان من الصعب على ضحايا الاستيطان الصهيوني، وخاصة أولئك الذين فقدوا أراضيهم ومصادر رزقهم لصالح المهاجرين الجدد، أن يميزوا بين اليهود الذين يحاولون التعايش مع الفلسطينيين، وبين زعمائهم الصهاينة، إلا أنه كان على القادة الفلسطينيين أن يكبوا ويواظبوا على مهمة تبديد الغموض وسوء التفاهم الصهاينة اللذين يعيقان الوفاق اليهودي ـ العربي.
وهكذا فإن مؤسسي فتح استشفوا منذ البداية، إمكانية إقامة دولة ديمقراطية في كامل فلسطين يعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون كمواطنين متساوين. غير أن عوامل ذات طابع سياسي كانت تمنعنا أن نجاهر قبل عام 1968، بالعرض الذي ينبغي لنا أن نقدمه لليهود الإسرائيليين. وكذلك فإن من سبقونا ارتكبوا غلطة إلحاق الحركة الوطنية الفلسطينية بإرادة الأنظمة العربية خالطين بين بواعثها ودوافعها الأنانية وبين دوافع الشعوب العربية البريئة من الأغراض. كانت غالبية حكومات المنطقة في تلك الحقبة خاضعة لسوط انكلترا أو نفوذها بحيث أنه لم يكن بالإمكان ـ ضرورة أن بسبب طبيعتها ـ أن تكون حليفة صادقة لحركة تحرير تناضل ضد الاستعمار البريطاني بالذات، فقد استشهد الشيخ عز الدين القسام، وهو مناضل حقيقي من أجل الحرية، قام بتنظيم حقيقي الفئات الدنيا من الفلسطينيين قبل أن يبدأ المقاومة السرية عام 1932 وقضى ببطولة لأنه لم يستطع الحصول على أدنى دعم من أي بلد «شقيق». وإذا كان القسام قد لقي مصرعه عام 1935، أثر معركة خاسرة سلفاً، على يد الانكليز بالتأكيد، إلا أن موته يعزى بخاصة إلى المتواطئين العرب مع السلطات البريطانية.
وكذلك فإن أي نظام عربي لم يهب لنجدة الشعب الفلسطيني أثناء عصيان عام 1936 الشعبي. وانتهت الإضرابات العامة ـ التي دام أحدها ستة أشهر ـ والمظاهرات ومعارك المواجهة التي تتالت حتى عشية الحرب العالمية الثانية، إلى حمامات دم. فلم تكتف الدول العربية بأنها لم تفعل شيئاً لوقف المذابح وحسب، ولم تكتف بالامتناع عن تقديم معونة مادية لشعب أعزل يواجه المدافع والدبابات الانكليزية، بل إنها وجهت نداءً علنياً إلى الشعب الفلسطيني تدعوه فيه إلى وقف المعارك ضد ـ وبالحرف ـ «حليفتنا العظمى إنكلترا». وحاولوا بالمناسبة نفسها حرف الثورة وتضليلها بالإشارة إلى اليهود على أنهم العدو الذي يجب صرعه.
وفيما بعد الحرب واصلت الدول العربية رفضها لمد الفلسطينيين بالوسائل التي يدافعون بها عن أنفسهم في حين كان الصهاينة فيه يتلقون كميات مذهلة من الأسلحة بفضل تواطؤ الانكليز السلبي أو الفعال، في ذات الحين الذي كان فيه ميزان القوى ينقلب بصورة خطيرة لصالح الهاغاناه، وفي نفس الوقت الذي كانت هذه الأخيرة تواصل في الأشهر الأولى من عام 1948 غزوها للأراضي. ولكنهم إنقاذاً للمظاهر، أرسلوا بضع مئات من البنادق لأجل عشرات الآلاف ممن كان يمكن تعبئتهم من بيننا لخوض المعركة، وكانوا يحتجون على سبيل التبرير، بأنهم قد ألزموا أنفسهم بأن يضطلعوا هم بتحرير فلسطين. ومن المعلوم الآن، إلى ماذا أفضت مغامرتهم التي تدعو للرثاء. فلم تكن جيوشهم التي اجتاحت فلسطين في 15 أيار (مايو) 1948 قادرة حتى على أن تطبق على أرض المعركة، مشروع التقسيم الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني ـ نوفمبر ـ 1947، ولذلك سببه: فعاهل الأردن، الملك عبد الله، الذي كان يطمع بالضفة الغربية، سارع إلى ضم أراضي الضفة بلا قيد ولا شرط، في حين أن الملك فاروق وضع منطقة غزة تحت الإدارة المصرية. أما الحكومة التي تشكلت في غزة برئاسة أحمد حلمي باشا، فماتت في يوم ولادتها نفسه، بعد أن امتنعت كافة العواصم العربية عن المخاطرة بدعمها. فالدول العربية يسرت وساعدت، عملياً، على تدعيم الأمر الواقع الذي هو إنشاء دولة إسرائيل، متيحة لهذه الأخيرة أن توسع مساحة الأراضي التي خصصتها لها هيئة الأمم المتحدة.
ونستطيع أن نضاعف من سوق الأمثلة التي تشهد بصحة المثل الشعبي القائل: «كل الثورات التي تولد في فلسطين، تجهض في العواصم العربية». فقد أثبتت التجربة إن كافة أنظمة المنطقة ـ الرجعية منها والتقدمية ـ تعاملنا في نهاية الأمر بنفس الطريقة مقدمة مصالحها على مصالح الشعب الفلسطيني.
وعلى هذا فأن مؤسسي فتح اقسموا اليمين على التصدي لكل محاولة لإخضاع الحركة الوطنية الفلسطينية لإشراف حكومة عربية، كائناً ما كانت هذه الحكومة، وعلى السهر على أن لا يستعيدها أي بلد (شقيق) إلى حظيرته. فقد كان في تقديرنا، إنه بهذا الثمن وحده، نستطيع أن نضمن استمرار مشروعنا، ومن ثم نجاحه في وقت لاحق. فإذا تجاوزنا عن هذا، فإننا كنا نفسر لمناضلينا، ثم لمحاورينا العتيدين، أننا لسنا غير انفصاليين وحسب، بل إننا نطمح إلى أن نصبح أبطال الوحدة العربية. خاصة، أننا كنا مقتنعين بأن الفلسطينيين لا يستطيعون بمفردهم تحرير وطنهم، طالما بقي ميزان القوى المحلي والعالمي على ما هو عليه. ووضعنا لأنفسنا كهدف، أن نصبح الوسيط والحافز لقوة عربية وحدوية ثورية، ورأس حرية لجبهة عريضة تستطيع هي وحدها أن تعيد للفلسطينيين حقوقهم. هكذا كانت إستراتيجيتنا وما تزال. وبانتظار أن تفضي إلى المأمول، فإنها لا تستبعدن بل على العكس، قيام تحالفات تكتيكية مع حكومات عربية وغير عربية تتلاقى مصالحها ومصالحنا.
وقد طبق الحاج أمين الحسيني هذا المبدأ تطبيقاً خاطئاً،حين انضم أثناء الحرب العالمية الثانية إلى ألمانيا الهتلرية مرتكباً بذلك خطأً ندينه جميعاً، بأقصى ما يمكن من شدة. بعد هذا يبقى من الضروري أن نضع سلوكه هذا في سياقه الحقيقي. فالدعاية الصهيونية تقدم الحاج أمين، لأسباب لا تخفى، كمتعاطف مع النازية. لكن كافة من عرفوه ـ وأنا منهم ـ يستطيعون أن يشهدوا بالعكس. كان الحاج أمين وطنياً ـ محافظاً بالتأكيد ـ ولكنه صادق وينبغي لي أن أقول، إبراء له، إنه برغم عقليته، وبرغم التباينات الجدية التي كانت تفصلنا، فإنه لم ينتقد فتح وقادتها في العلن مطلقاً. وقد التقيت به في آخر مرة عام 1947 قبل وفاته بثلاثة أشهر. وحين أخذت عليه ربطه لمصيره بألمانيا، فإنه فسر لي دوافعه. فهو لسخطه على دور وأساليب انكلترا في فلسطين ولمطاردة السلطات الانتدابية له، فإنه التحق تلقائياً بالمعسكر المناوئ.
ثم إنه شأن كثيرين آخرين من القوميين العرب، ولا سيما في مصر والعراق، اعتقد أن قوى المحور ستربح الحرب وستمنح فلسطين الاستقلال، عرفاناً منها بجميل كافة الذين دعموها في النزاع. وقد لفتُّ نظره إلى أن مثل هذه الأوهام إنما تستند إلى حسابات ساذجة، خاصة عندما نتذكر أن هتلر كان يضع العرب في المرتبة الرابعة عشرة، بعد اليهود، في سلسلة مراتب جودة «الأعراق» على سطح كوكبنا، ولو ربحت ألمانيا الحرب لفرضت على العرب الفلسطينيين احتلالاً، أشد شراسة من ذلك الذي عرفوه تحت الانتداب البريطاني.
قلت إذاً أن الحاج أمين لم يكن نازياً، كما لم يكن القادة الفلسطينيون الذين دعموا انكلترا خلال الحرب عملاء الاستعمار. ذلك أن هؤلاء الأخيرين، وبكل بساطة، راهنوا على انتصار الحلفاء، آملين أن ينتزعوا بذلك استقلال وطنهم، الذي هو الهدف الأول المقدس لكافة صراعات الشعب الفلسطيني، منذ الحرب العالمية الأولى. إن الذين حاولوا تأكيد الأطروحة القائلة بأن الوطنيين الفلسطينيين قد وضعوا أنفسهم في خدمة ألمانيا الهتلرية، إنما يتجاهلون بأن الآلاف من مواطنينا قاتلوا في صفوف الجيش البريطاني، وإنه تم إعداد أفضل مدربينا العسكريين، أي أولئك الذين ساهموا بتدريب الفدائيين، على يد القوات الانكليزية.
لا بل إن سخرية القدر شاءت أن يكون أول قائد لجيش التحرير الفلسطيني الذي تشكل عام 1965، وهو اللواء وجيه المدني، خريج نفس الدورة التي تخرج منها موشي دايان، في مدرسة عسكرية بريطانية في فلسطين... وليست تجارب من سبقونا وأخطاؤهم وحدها هي التي ساهمت بتوجيه خططنا الأولى. فحرب العصابات التي اندلعت في الجزائر قبل تأسيس فتح بخمس سنوات، قد أفادتنا إفادة عميقة. كنا مأخوذين بمسيرة الوطنيين الجزائريين الذين استطاعوا أن يشكلوا جبهة صلبة وأن يخوضوا المعركة ضد جيش قوي، يفوق جيشهم ألف مرة، وإن يحصلوا على معونة متعددة الأشكال من مختلف البلدان العربية، التي كانت في بعض الأحيان تنتمي إلى معسكرات متناحرة، وأن يفلحوا في الوقت نفسه في عدم الوقوع بالتبعية لأي منها. فكانوا رمزاً - إذا صح القول - للنجاح الذي كنا نحلم به.
ولما لم تكن لنا علاقات مع ممثلي جبهة التحرير الوطني الجزائري، فإننا رحنا نتزود بالوثائق حول الحركة الجزائرية مما كان ينشر في الصحف والكتب. كانت ثقافتي السياسية تعاني من الكثير، وكنت كطالب في الفلسفة قد ألِفتُ هيغل وماركس ولينين، بعض الألفة بحكم وبطبيعة الأشياء، إلا أن قراءاتي ظلت انتقائية تذهب من ميشيل عفلق (مؤسس البعث) وسيد قطب (أحد أصحاب المذهب في حركة الإخوان المسلمين) إلى قصص المغامرات والكتب البوليسية. وإنما بدأت اهتم على نحو خاص بالثورات، جميع الثورات، بعد عودتي إلى عام 1957.
والتهمت مؤلفات لينين. كانت شجاعته وتفاؤله العميق حتى في الفترة التي كان يعيش فيها كمنفي سياسي في الخارج تثيراني. ثم إن في استيلاء البلاشفة على السلطة، والصعوبات التي واجهوها، تعاليم عديدة، كانت تبدو لي ذات فائدة كلية عامة. إلا أنني كنت أشعر بنفسي أقرب إلى ماوتسي تونغ الذي كان حسه الخلقي أقرب فيما يبدو لي إلى الإسلام، منه إلى مادية لينين المحضة، ثم إن «المسيرة الطويلة» مسيرة الـ 10000 كيلومتر، استحوذت قبل هذا كله على خيالي. وجعلتني أحلم فأتمثل الشعب الفلسطيني حاملاً السلاح، عائداً إلى بلاده ليطرد محتليه.
وقد كتب فرانز قانو، الذي كان أحد كُتَّابي المفضلين، في كتاب «معذبي الأرض» الذي قرأته وأعدت قراءته عدة مرات ـ إنه ليس سوى الشعب الذي لا يخشى مدافع ودبابات العدو بمستطيع أن يخوض الثورة إلى منتهاها. فكان يعني أن الوطنيين الجزائريين، ما كانوا سيباشرون أي أمر، فيما لو أنهم أخذوا بعين الاعتبار ميزان القوى السائد في اللحظة التي أشعلوا فيها انتفاضتهم. كان في وسعنا أن نلاحظ في تلك الحقبة كم كان قانو مصيباً. فقد كانت الشعوب من أقصى العالم الثالث إلى أقصاها، تمتشق السلاح، رغم أنها عزلاء مجردة، لتأخذ حريتها واستقلالها غلاباً.
كان مؤسسو فتح، يقدرون تماماً تفوق إسرائيل العسكري، ومدى وسائلها وقوة حلفائها، إلا أنهم حددوا لأنفسهم رغم ذلك، كهدف أساسي، تسعير الكفاح المسلح. ليس لأننا كنا نتعلل بوهم الاستطاعة على التغلب على الدولة الصهيونية رغم كل شيء، بل لأنه لم تكن لدينا وسيلة أخرى لفرض القضية الفلسطينية على انتباه الرأي العام العالمي، ثم وبخاصة، لتجميع جماهير شعبنا داخل الحركة الشعبية التي نسعى لإنشائها. كنا نأخذ بعين الاعتبار ـ من هذه الناحية ـ عاملين اثنين: عقلية الفلسطينيين وتوزعهم على مختلف الأحزاب السياسية العربية. ونحن لم نكن نستطيع منافسة هذه الأحزاب على الصعيد الإيديولوجي. فلم يكن لدينا ما نقدمه خيراً مما لدى الإخوان المسلمين والشيوعيين والقوميين العرب أو العبثيين كل في مجاله. ولاحق هو أننا كنا نعتقد أن هذه الأحزاب هي تشكيلات سلبية، بمقدار ما كانت تطرح تحرير فلسطين وتجعله في المستوى الثاني، ثم لأنها تقسم الفلسطينيين.
كان الكفاح المسلح وحده قادراً على التسامي على التباينات الأيديولوجية، وأن يصبح بالتالي حافزاً ووسيطاً للوحدة، وبالفعل، فقد كنا بدأنا نلاحظ أن كثيرين من أبناء وطننا، ممن أوسعتهم الأحزاب ورجال السياسة العرب خطابات وأشبعتهم وعوداً، بدؤوا يصابون بالإعياء من هذه المماحكة العقيمة، ويساءلون عما إذا لم تكن الدعوة الإسلامية والعروبية والشيوعية تشكل تحولات منفرة، أو ما هو أسوأ من ذلك، أي بدائل تحل محل الهدف الذي يتشغف أفئدتهم، عنيت، هدف استعادة وطنهم. وإنما تمكنا أن نعرض عقيدتنا أمام الجمهور الواسع، بواسطة مجلة بدأنا نحررها ونطبعها بصورة سرية مغفلة منذ عام 1959 تحت اسم «فلسطينيا» فكانت تظهر بصورة غير منتظمة وبحسب ما تنتجه وسائلنا وإمكانياتنا، وهي تشتمل على معلومات وآراء ومقالات موقعة بأسماء مستعارة، ونعالج فيها بعبارات بسيطة في متناول الكافة، مبادئ أساسية يمكن إيجازها كما يلي: إن العنف الثوري هو الطريق الوحيد المؤدي إلى تحرير الوطن، ولا بد من أن يمارس، في المرحلة الأولى على الأقل، من قبل الجماهير الفلسطينية نفسها بقيادة مستقلة عن الأحزاب والدول، غير أن دعم العالم العربي الفعال، هو أمر لا غنى عنه لنجاح المشروع، على أن يحتفظ الشعب الفلسطيني بسلطة التقرير وبدور الطليعة.
كانت فتح تناقض أطروحات قومية عربية كانت تسود في تلك الحقبة وهي تعلن أن «الوحدة العربية تمر بتحرير فلسطين» لا العكس. وكانت هذه المواقف مواقف جسورة في لحظة بلغت فيها الناصرية أوج قمتها، وبدت فيها ولادة الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت بين مصر وسوريا، كنقطة انطلاق لتيار سيكتسح دولة إسرائيل.
غير أن مهمتنا الرئيسية في خريف عام 1959، لم تكن كسب قطاعات واسعة من الرأي العام لوجهات نظرنا، وإنما إنهاض المنظمة التي ستتيح لنا شن الكفاح المسلح، وأن نصبح حركة جماهيرية. وابتكرنا فكرة جهازين، أحدهما عسكري والآخر سياسي على النمط الهرمي. فكانت هناك خلايا القاعدة ولجان مناطق ومجلس ثوري ينبغي له أن يعمل تحت الرقابة العليا للجنة مركزية تستمد سلطتها من مؤتمر وطني، وهو ضرب من البرلمان الذي يضم ممثلي كافة فئات الشعب الفلسطيني: التجار والموظفون والعمال اليدويون، وأعضاء المهن الحرة، والمثقفون الذين ينبغي لأعضائنا أن يناضلوا بينهم كمستقلين.
وخلال المرحلة المسماة بمرحلة إعداد الأطر والكوادر والتي تمتد من عام 1959 إلى عام 1964، أوجدنا مئات الخلايا، مئات الخلايا على أطراف دولة إسرائيل، في الضفة الغربية، وغزة وفي مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان، وكذلك داخل التجمعات الفلسطينية في البلدان العربية الأخرى وفي إفريقيا وأوروبا وحتى في الأميركيتين الشمالية والجنوبية، وكان مناضلونا يتوصلون، دون أن يكشفوا انتماءهم لفتح إلى الفوز في الانتخابات لمراكز القيادة في النقابات والنوادي والتجمعات الحرفية والمجالس البلدية. كما أن من يملكون كفاءات خاصة منا، كانوا يجدون أنفسهم وقد عهد إليهم بوظائف هامة في هذا البلد العربي أو ذاك.
كانت السرية المطلقة هي القاعدة في كافة نشاطاتنا. وكانت كل خلية تضم ثلاثة أعضاء على الأكثر، ولا يعرفون بعضهم بعضاً، إلا بأسمائهم القتالية، التي كانت تتغير بين الحين والآخر، كإجراء أمن إضافي. وكانت أمكنة اجتماعهم المفضلة هي المؤسسات العامة، أو الأمكنة التي يكونون فيها على مرأى من الكافة، وذلك بمناسبة نزهات وهمية ينظمونها لهذا الغرض. أما الاتصالات الهاتفية والمراسلات، فكانت ممنوعة، بحيث أن المبادلات كانت تتم شفوياً، وحتى لو كان على القيادة أن ترسل موفدين إلى بلدان أخرى تتمتع تنظيماتنا فيها باستقلال ذاتي كبير.
وقد امتنعنا أثناء هذه المرحلة، وفاء لمبدئنا في الاستقلال، أن نطلب أدنى معونة مالية من أية دولة في المنطقة، رغم أن حاجاتنا كانت هامة. فلم يكن علينا أن نؤمن عمل فتح ونموها وحسب، وإنما أن نغذي كذلك مختلف الصناديق المالية التي كان أحدها مخصصاً لشراء الأسلحة. فبدأنا منذ ذاك نطلب تضحيات جساماً من مناضلينا، الذين كانوا يدفعون جزءاً هاماً من أجرهم أو من راتبهم ـ يزيد أحياناً على النصف ـ إلى صندوق فتح. ومن جهة أخرى فإن أثرياء فلسطينيين، من فلسطينيي المنفى كانوا أعضاء في حركتنا، أو متعاطفين معها، راحوا يغذون هذا الصندوق بكرم بالغ. وعلى مدى السنين بدأ جامعوا التبرعات لنا، يشكلون شبكة واسعة من المتبرعين المنضمين أو المنضمين إلى لجان الدعم.
وعرفت فتح أول انطلاقة لها اعتباراً من عام 1961. وثمة حدثان ساهما في توسيع صفوف الحركة. كان الأول هو نجاحنا في توحيد منظمة الخمس وثلاثين أو الأربعين منظمة فلسطينية من تلك التي كانت قد نشأت بصورة عفوية في الكويت. صحيح أنه لم يكن لكثير منها سوى وجود كسيح، ولا تضم الواحدة سوى مجموعة أو مجموعتين من الشباب المتحمس. إلا أنه يظل صحيحاً كذلك، أن دخولها إلى فتح وضع حداً لتبعثر الإرادات الطيبة، كما كان يحمل إلينا في بعض الحالات عناصر ديناميكية وكفؤة.
أما ما كان أهم من ذلك، فهو الاندماج الذي تفاوضنا عليه مع المنظمة التي كان يذكيها في قطر وفي العربية السعودية، ثلاثة رجال سيلعبون بعد ذلك أدواراً من المقام الأول: هم أبو يوسف النجار وكمال عدوان «اللذين استشهدا على يد مجموعة مغاوير إسرائيلية في بيروت في شهر نيسان ـ إبريل ـ 1973» وأبو مازن، وهو حالياً عضو اللجنة المركزية في فتح. كانت أفكارهم متقاربة جداً مع أفكارنا، فكان أن تم اتفاق الوحدة بيننا دون صعوبات. كما كان بينهم الشهيد الأول للجنة المركزية المهندس عبد الفتاح حمود (أبو صلاح).
والحقيقة هي أن انفراط الجمهورية العربية المتحدة في أيلول ـ سبتمبر 1961، سجل بداية استمالتنا إلى حركة جماهيرية. فالخيبة التي أثارها فشل الوحدة المصرية السورية، التي كانت بحجم الأمل الشاسع الذي ثار لدى إعلانها تحت كنف عبد الناصر قبل ذلك بثلاث سنوات، حثت العديد من الفلسطينيين على الفرار من تنظيماتهم الخاصة والالتحاق بفتح، وسيسوء حكم القارئ على تعجل الفلسطينيين وبميلان صبرهم إزاء استعادة وطنهم، إذا لم يقدر مدى ضنكم. فالمنفى بحد ذاته، هو ألم لا يستطيع فهمه سوى أولئك الذين عانوه. ثم إن الشقاء والتعاسة يكونان أعظم عندما يلي فقدان الدار، الانفصال عمن نحبهم. فقليلة هي العائلات الفلسطينية التي لم تذهب أشلاء بتبعثرها بسبب الحاجة في مختلف البلدان العربية وغير العربية، وفي أجزاء تبلغ في البعد مبلغ الولايات المتحدة أو أميركا الجنوبية.
وعلى هذا، فإن المصير الذي آلت إليه عائلتي من هذه الناحية ليس مصيراً استثنائياً. فأخي البكر، عبد الله، عمل كعامل ميكانيكي في العربية السعودية، قبل أن يصبح تقنياً، يعمل في حقل تكييف الهواء في الكويت. أما أخي الأصغر الذي يليه سناً، أحمد، فهو أستاذ أدب انكليزي في قطر، إلا أنه عاش قبل ذلك في باكستان ومصر وانكلترا. وأما شقيقاتي سلوى وإنصاف، فهما وإن كانتا مقيمتان في العربية السعودية، إلا أن الأولى تعلم في جدة، بينما استقرت الثانية في الرياض، حيث تزوجت من موظف يعمل في وزارة الدفاع. وهكذا فإننا لم نفلح خلال ربع قرن، في أن نجتمع سوى مرة واحدة عام 1977 وذلك بمناسبة عملية جراحية خطيرة أجريت لشقيقي عبد الله في الكويت. وغاب عن اجتماع العائلة المشهود هذا، غائب واحد: هو والدي الذي توفي قبل ذلك بسنة في القاهرة. وحين غادر الفلسطينيون فلسطين عام 1948، ظنوا سيلقون في البلاد العربية عطف الأشقاء. وكم كان ذهولهم عظيماً، حين لاحظوا أنهم يعاملون كأجانب في أفضل الأحوال، أو كأشخاص غير مرغوب فيهم في غالبية الدول. أما لبنان، وهو الأرض المضيافة، فقد أجاز لهم الإقامة مهتماً بهم، معتنياً بشأنهم. ولكن مخيمات اللاجئين التي نصبت فيه، لم تلبث أن تحولت إلى مراكز «تحجير» (غيتو) بحيث لا يمكن الدخول إليها أو الخروج منها إلا بإجازة. أما في الأردن فكان الدخول إلى المخيمات حراً، إلا أن اللاجئين كانوا يخضعون لرقابة بوليسية ثابتة، بحيث أن كل نشاط سياسي، بل أي اعتراض، يعاقب عليه باستجوابات منهكة، وسجن تعسفي، بل بالتعذيب. أما في سوريا، فإن شروط الحياة كانت أقل قسوة، ولكن السلطات كانت تطالب ضيوفها بالمقابل، بامتثال كامل، والتحاق غير مشروط بالنظام القائم، يسارياً كان أم يمينياً، (انفصالياً) أو عروبياً. كما أن مشكلة الاستخدام، كانت هي نفسها من أقصى العالم العربي إلى أقصاه. فأبناء البلاد يتمتعون بالأولوية في تقلد الوظائف، أما الفلسطينيون فكان عليهم الاقتناع عند الاقتضاء بالوظائف الثانوية الشاقة أو الزهيدة الأجر. وعلى أي حال، فإنه كان عليهم أن «يؤدوا ما عليهم» إزاء مصالح الأمن، التي كان في مقدورها أن تقضي بالبطالة على كل فلسطيني تشتبه «بإخلاصه» أو تظن فيه «الخريب».
كانت الكويت أحد الاستثناءات القليلة على القاعدة. فطالما ابدى شعب وحكومة هذه الدولة الصغيرة تعاطفاً ودعماً إزاء الفلسطينيين الذين ساهموا، والحق يقال، في نمو ورفاهية هذه الإمارة، إن بإعدادهم وإن بنوعيتهم، وذلك قبل أن تغرقها مداخيل النفط.
وتضم الجالية الفلسطينية التي تمثل حوالى 20 بالمئة من سكان الكويت، عدداً من المعلمين والمهندسين والأطباء وكبار الموظفين. فضلاً عن جمهور واسع من العمال المؤهلين.
فليس من قبيل الصدقة أن تكون فتح كبرت ونمت وترعرعت في الكويت، فكثير من بيننا كانوا يشغلون مناصب ممتازة هناك: فياسر عرفات كان مهندساً يتمتع بكثير من التقدير والاحترام في وزارة الأشغال العامة، وفاروق القدومي (أبو اللطف) كان يدير دائرة في وزارة الصحة العامة، وخالد الحسن وعبد المحسن القطان كانا من كبار إداريي الدولة. وأما خليل الوزير (أبو جهاد) وأنا فكنا أستاذين في مدارس ثانوية. ونمر صالح (أبو صالح) فقد كان عاملاً فنياً هناك وله شعبية خاصة بين العمال.
وهكذا فإننا كنا، بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يعيشون في بلدان عربية أخرى، بمثابة أصحاب امتيازات. فبالرغم من أننا كنا نقوم بنشاطات سرية واسعة، إلا أننا لم نكن نلاحق أو نضطهد. ودروس اللغة العربية والفلسفة وعلم النفس التي كنت أتولاها، كانت تتيح لي أن أعرض أفكار فتح بكل طمأنينة على طلابي الذين كنت أجند من بينهم أفضل العناصر.
وبالمقابل فإننا كنا نشاطر كافة الفلسطينيين قدرهم لجهة القيود المفروضة على تنقلاتنا. فبرغم أننا كنا نحمل جوازات سفر صادرة عن هذه الدولة العربية أو تلك، فإننا كنا مطالبين بالحصول على تأشيرات خروج ودخول، كانت تعطى لنا بشح وتقتير، وبعد الكثير من المساعي المضنية. كان لنا أن نكون رعايا مصريين أو سوريين وأردنيين ولبنانيين، إلا أن سلطات أوطاننا بالتبني ظلت تعاملنا كأجانب، فضلاً عن معاملتنا كمشبوهين.
فالفلسطيني المزود بوثيقة سفر مصرية مثلاً، لا يستطيع الخروج من البلاد أو الدخول إليها، دون إذن خاص. ولما كنت أتولى مسؤوليات تنظيمية داخل فتح، فإني كنت مجبراً من جهتي على أن أكثر من ارتياد مختلف البلاد العربية، فكانت تضاف إلى إزعاجات التأشيرات، الصعوبات الإدارية في الحصول خلال السنة المدرسية على عطل غير نظامية. فكنت أتلافى القيام برحلات لا تكون ضرورية للغاية.
إلا أن ظرفاً قاهرا طرأ في آذار (مارس) 1963 عندما علمت أن شقيق زوجتي البكر، وهو مهندس يقيم في القاهرة، قد توفي بحادث، فكان أن أثارت التفسيرات التي قدمتها لا طلب الأذن بالغياب، تشكك وكيل وزارة التربية الوطنية يعقوب الغنيم الذي انتهى إلى الارتياب بأني أتعاطى نشاطات غامضة، والغنيم رجل مرهق يملك حسن دعابة حاداً، وقد قال لي وهو يضحك لقد تذرعت، تبريراً لسفراتك الكثيرة في هذه السنوات الأخيرة، بوفاة والدك، ثلاث مرات على الأقل، وبوفاة والدتك أربع مرات وكذلك بموت أشقائك وشقيقاتك. أفتظن أنك تستطيع أن تقنعني اليوم بوفاة شقيق زوجتك المأساوية». ولست أدري إذا كنت أفلحت بإقناعه بحسن نيتي، لكن يعقوب الغنيم الذي سيصبح فيما بعد أحد أفضل أصدقائي «والذي ما يزال يشغل نفس الوظائف» قد وافق على منحي الإذن بالسفر. فاصطحبت زوجتي وابنتي إيمان التي كانت في الثالثة من عمرها، ثم صعدنا إلى طائرة متجهة إلى بيروت حيث كان ينبغي لنا أن نمضي الليلة قبل أن نأخذ الطائرة إلى القاهرة، ولكننا اصطدمنا برفض السلطات اللبنانية في أن تعطينا تأشيرة دخول مؤقت (ترانزيت) لأربع وعشرين ساعة، ودعينا لتمضيه الليل في مطار بيروت في غرفة صغيرة لا نستطيع حتى أن نتمدد فيها، فرحت أترافع لصالح زوجتي وابنتي، عارضاً أن أبقى في المطار بينما تمضيان هما الليلة في فندق بالعاصمة. ولكن عبثاً، إذ أن ضابط الأمن لم يتزحزح عن موقفه.
وفي أثناء ذلك، تم إدخال كلب إلى الغرفة التي كنا محتجزين فيها. إذ لم يكن باستطاعته هو الأخر أن يدخل إلى البلاد، لأنه لا يحوز على شهادة صحية نظامية، كنت بدأت أتعزى بفكرة أنه ليس ثمة تمييز يفصل بين الفلسطينيين والكلاب، عندما جاء من يسعى وراء صاحبنا العاثر الحظ، بعد أن نال إعفاء استثنائياً بسبب «تدخل رفيع المستوى» تم لصالحه.

Comments are closed.