فلسطيني بلا هوية لـِ صلاح خلف (3) إنفجار التيار الجزء الثاني

فلسطيني بلا هوية
لـِ صلاح خلف
(3) إنفجار التيار
الجزء الثاني

وقد ظل هذا الحادث، الذي يرمز إلى المصير الذي ينتظر الفلسطينيين محفوراً في ذاكرتي، بحيث أني بعد ذلك بعشر سنوات، رويته لشخصية لبنانية تشغل حالياً منصباً هاماً داخل حزب الكتائب، لأدلل له على قدر الفلسطينيين البائس، وعلى معنى كفاحنا. فشزرني ببرود وقال لي بلهجته ازدراء: «إن حركتك التحريرية لم تدرك أي هدف من أهدافها وما تزالون غرباء غير مرغوب فيهم، ولن تحصلوا مطلقاً على حق الدخول إلى البلدان العربية. والنتيجة الملموسة الوحيدة لوجودكم في لبنان، هو أنكم ساهمتم بدعواكم في حقل الأجور، إلى رفع الأجرة التي ندفعها لخدمنا». فصررت أسناني، وكظمت غيظي، ولم أجب. كان علي أن أضبط أعصابي، في لحظة كنت أحاول فيها المفاوضة على اتفاق، يهدف إلى تجنيب اللبنانيين حرباً أهلية مدمرة، وتجنيب المقاتلين الفلسطينيين محنة جديدة قاسية، في بلد يشكل بالنسبة إليهم، آخر ملاذ لهم في العالم العربي، غير أن زوجة محدثي التي كانت شاهدة على محادثتنا، لم تستطيع أن تكبح سخطها على مثل هذه الصلافة الشرسة. فقالت بحدة: « لو كنت مكان أبو أياد، لقتلتك في الحال..» غير أن محدثي لم يخطئ في نقطة واحدة، فنحن رغم صراعاتنا وانتصاراتنا، ورغم الآلاف من شهدائنا، بما في ذلك الذين ضحينا بهم في ميدان المعارك العربية، ما نزال أبداً نُعامل كالموبوئين بالطاعون.
وأريد أن أذكر بهذا الصدد، حالة قريبة العهد بين كثير من الحالات الأخرى، هي تلك التي حدثت لتدعو أحمد الأسطل، الذي يحمل جواز سفر مصري حسب الأصول، ولكنه وجد نفسه ذات يوم في عام 1976 ممنوعاً من دخول مطار القاهرة. ووضعته السلطات المصرية في طائرة متجهة إلى دمشق، حيث ما لبث أن أبعد باتجاه الكويت. وهناك وضعوه في طائرة متجهة إلى عمان التي رفضت قبوله. وهكذا فقد قام بجولة حول مختلف البلدان العربية، ولمدة أسابيع، قبل أن يتمكن بعد مداخلات كثيرة، من أن يجد ملاذاً. والأسطل حسب علمي، لم يرتكب أي عمل يستحق العقاب، لكن تقريراً ما، من تقارير الشرطة، مبيناً على شائعة، يكفي لتجريم فلسطيني. إن شعباً بلا وطن، لهو شعب بلا حول، وبالتالي بلا دفاع. أمن العجيب بعد هذا، إذا بحثنا عن انعكاس هويتنا، بل وجودنا في رموز مثل جواز السفر أو العلم، ومن بداية سنوات الستين، راح الاستياء ينتشر بين الفلسطينيين بسبب اللامبالاة التي كانت تظهرها إزاءهم مختلف الأنظمة العربية، فكانت الحاجة إلى منطقة قتالية في مجلة فلسطينيا تزداد إلحاحاً. لا سيما بعد الحملة التي خضناها في مجلة فلسطينيا. وكان التقدير السائد لدى عدد كبير من الحكومات العربية، هو أنه يجب ملئ هذا «الفراغ» بإنشاء حركة تأخذ على عانقها الغضب المتزايد الذي يهدد بأن ينقلب ضدها. فكانت لا بد لها من أن تجد الرجل القادر على تنظيم الحسيني الذي كانت مهابته ما تزال عظيمة، إن لم نقل سليمة كاملة، لدى قطاع واسع من الرأي العام، كان ما يزال جاهزاً. غير أن عبد الناصر لم يكن شغوفاً بمفتي القدس السابق. فقد منحه حق اللجوء السياسي إلى مصر، ولكنه منعه من القيام بأي نشاط عام.
كان تقدير "الريس" أن الزعيم الفلسطيني الهرم، يرمز إلى ماض ولَّى إلى الأبد، وأنه على كل حال، أفقد نفسه الاعتبار بتعاونه مع ألمانيا النازية. فكان يفضل عليه أحمد الشقيري وهو محام محترف ومحدث لبق وخطيب ومجيد، كما أنه اكتسب فوق ذلك تجربة في الحياة الدولية، بتمثيله العربية السعودية في الأمم المتحدة.
وهكذا فقد جرى تكليف أحمد الشقيري في شهر أيلول (سبتمبر) 1963، بالبحث عن وسائل تأكيد وجود «كيان فلسطيني» فكان عليه أن يتشاور مع الحكومات العربية لهذا الغرض، بهدف عقد مؤتمر فلسطيني يؤسس منظمة تمثيلية.
وما لبثت منظمة فتح أن اكتشفت المناورة، وقدَّرت خطوة هذه المؤسسة، التي تشكلها وتحركها وتشرف عليها الأنظمة العربية، على الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد سبق لنا، ياسر عرفات، وأنا، أن عرفنا الشقيري جيداً في مطلع سنوات الخمسين، في الفترة التي كنا نقود فيها اتحاد الطلاب الفلسطينيين، فقررنا الاتصال به، لإقناعه بالتعاون معنا. وخلال محادثة أولى معه، في القاهرة، حاولت أن أفسر له لماذا نعتقد أن منظمة تشكل «من فوق» ستكون منظمة غير فعالة إذا لم تتمتع بدعم «القاعدة» الفعال. وعرضت عليه التنسيق السري بين نشاطاته العلنية، وبين عمل نخوضه بصورة سرية. وبهذا تصبح منظمة التحرير الفلسطينية التي ستعهد إليه أول قمة عربية بتشكيلها في كانون الثاني (يناير)، ضرباً من الوكالة اليهودية ـ كما قلت له ـ ونوعاً من الواجهة الشرعية للكفاح المسلح، الذي يقوم به مناضلونا، على أن يتم تأمين الاتصال بيننا وبين منظمة التحرير، عبر بعض أطرنا (كوادرنا) التي يستطيع الشقيري تعيين بعضنا من أعضائها في اللجنة التنفيذية للمنظمة.
وأصغى إلى أحمد الشقيري ـ الذي كان ما يزال يجهل كل شيء عن فتح ـ بكثير من الانتباه والتعاطف كما بدا لي. ثم طلب مهلة للتفكير. وخلال جولته في العواصم العربية، كلمه بعض الرفاق المكلفين بذات المهمة المناطة بي، بلغة مماثلة. إلا أن جوابه كان سلبياً. وأبلغني أن وظائفه وعلاقاته مع الأنظمة العربية وواجبه في عدم الإضرار باستراتيجية الجامعة، التي كان قوامها في تلك الحقبة، منع إسرائيل من تحويل مياه نهر الأردن لصالحها، تمنعه من عقد مثل هذا التحالف معنا. وبعد ذلك بعدة سنوات، أي بعد أن أبعد عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، راح يبرر موقفه السلبي بإلقاء المسؤولية على عبد الناصر وعلى قادة آخرين. والواقع هو أن تفسيراته المتأخرة ليست مقنعة. إذ لماذا كان عليه أن يستشعر الحاجة إلى الحصول على موافقة رؤساء الدول العربية، ما دمنا عرضنا عليه إقامة علاقات سرية بيننا؟ لكن الشقيري بدلاً من أن يساعدنا كما وعد، فإنه راح بعد ذلك يحاربنا بأقصى ما لديه من طاقة.
وقد دعي أول مؤتمر وطني فلسطيني إلى الانعقاد في 28 أيار (مايو) 1964. فكانت المسألة المطروحة علينا حينذاك، هي مسألة ما إذا كان ينبغي لنا أن نقاطعه أم لا. فطبيعة رعايته، وتركيبه والهدف الذي ينزع إليه وغير ذلك من العوامل، كانت تدفعنا إلى التغيب عنه. غير أن أسباباً أخرى كانت على العكس من ذلك، تحث على اشتراكنا فيه، منها: ضرورة عدم الانقطاع عن الحياة السياسية الفلسطينية، ومنها الضرورة الأخرى الأكثر إلحاحاً، ألا وهي ضرورة التسرب إلى داخل منظمة غنية وقوية للإفادة من الوسائل التي تتمتع بها. فقد كان يسعها فعلاً أن تستخدم استخداماً مفيداً كواجهة لنشاطاتنا السرية. وهكذا فإن عدداً من رفاقنا، منهم: أبو جهاد ومحمد النجار وكمال عدوان وخالد الحسن، شاركوا في المؤتمر، واستغلوا مشاركتهم للدفاع عن أطروحات فتح الرئيسية، ولا سيما أطروحة الكفاح المسلح. كنا نحاول أن نفتح طريق حرب العصابات التي كنا نعد لها إعداداً محموماً، بحسب وسائلنا المتواضعة. ولما كنا لا نتمتع بدعم مالي من قبل أية حكومة كانت، فإننا رحنا نشتري من سوق السلاح أسلحة خفيفة بكميات ضئيلة، ومن نوعيات سيئة الجودة، في غالب الأحيان. على أن إحدى المشاكل التي واجهناها، كانت مشكلة إعداد فدائيينا العتيدين، وهم أكثر من ألف ممن نظمناهم في خلايا. كنا نستطيع عند الاقتضاء أن نشرك عسكريين قدامى ممن خدموا في مختلف الجيوش العربية، أو في القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. إلا أنه لا بد من تهيئة أماكن آمنة لأغراض التدريب.
كان النظام العربي الوحيد الذي يؤيدنا عام 1964، هو نظام بن بللا، الذي رخص لنا إقامة ممثليه في الجزائر، غير أن بن بللا، الذي كان وثيق الصلة بعبد الناصر، كان يرفض إعطاءنا أية معونة مادية. وإنما تسلمنا أول شحنة من السلاح من الجزائر، عام 1965، بعد تسلم بو مدين مقاليد السلطة، وعلى كل، فقد كان ذلك بفضل اللواء حافظ الأسد، رئيس الجمهورية العربية السورية، الذي كانت لنا معه علاقات طيبة منذ عام 1964.
كان الأسد في تلك الأثناء قائداً لسلاح الطيران. فكان يستلم الأسلحة المرسلة لنا بالطريق الجوي على سبيل الوديعة، ثم يسلمها لنا دون علم حكومته، ودون علم حزب البعث الذي ينتمي إليه. والواقع هو أن النظام السوري كان معادياً لنا. ولكنا نتمتع بتواطؤ رجلين يشغلان مناصب حساسة: الأسد واللواء أحمد السويداني رئيس الاستخبارات العسكرية، الذي سيرقى فيما بعد إلى منصب رئيس الأركان العامة. وهكذا فقد استطعنا أن نمتلك منذ مطلع عام 1964، معسكرين للتدريب في سوريا. وفي موضع آخر، كان فدائيونا يقومون بتمارين على إطلاق النار في مناطق صحراوية، وأحيانا في وسط بدوي، وكانوا حين يعوزهم ذلك، ينخرطون في جيش التحرير الفلسطيني الذي بدأ أحمد الشقيري بتكوينه تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية.
كان جيش التحرير الفلسطيني طعماً وخديعة. إذ لم يكن مرصوداً لمحاربة إسرائيل، الأمر الذي كانت كافة الأنظمة العربية تتلافاه بأي ثمن ـ وإنما لتحويل الفلسطينيين عن محاولة خوض كفاح مسلح مستقل. ولم تكن هذه الحسابات دون أساس، وكان من واجبنا أن نحبطها، فإنه لا بد لنا من البدء بالعمل بلا إبطاء. وهكذا فقد عقدت قيادة فتح اجتماعاً في الكويت، مع بداية خريف عام 1964، لمناقشة المسألة. فكانت المناقشة حامية بين ممثِلَي منحَيينِ متباينين. فبعض رفاقنا ممن سنشير إليهم بعد ذلك باسم «المتعلقين» وقفوا ضد ما اعتبروه محاولة سابقة لأوانها بصورة خطيرة. وراحوا يؤكدون أن شن حرباً لعصابات ما يزال أمراً مبكراً للغاية خصوصاً وأننا كنا قليلي أو سيئي التجهيز، وإن عدد مناضلينا ما يزال ضئيلاً نسبياً. ثم خلصوا إلى القول بأنه أولى بنا أن ننتظر إلى أن تصبح فتح حركة جماهيرية تتمتع بقوات أساسية قبل أن نقذف بأنفسنا في مشروع قد يثير ضدنا مجمل العالم العربي.
وكنا بضعة أشخاص بينهم ـ ياسر عرفات وأنا وأبو جهاد ومحمد النجار وأبو مازن وفاروق القدومي وخالد الحسن وسليم الزعنون ومحمد غنيم وسواهم، ندافع عن وجهة النظر المقابلة تماماً. قلنا إن الوضع ناضج بالنسبة للكفاح المسلح، فالجماهير الفلسطينية لم تسممها بعد ديماغوجية الشقيري، ولن تلبث أن تتأثر وتؤخذ بجديتنا وعزمنا على العمل. وقلنا إنّا عبر السياق المعاكس. فكان أن استحقينا بسبب هذه الأطروحة التي اعتبرت متهورة وصف «المغامرين». وقد دفعنا المأزق الذي أفضينا إليه، إلى عقد اجتماع موسع في دمشق في شهر تشرين أول 1964، لقياديي فتح، في البلدان المحاذية لإسرائيل، وخصوصاً لأطر الضفة الغربية وغزة، أي تحديداً، الأراضي التي ستنطلق منها أولى غارات الفدائيين، فانقسم الاجتماع وفقاً للشرخ نفسه الذي حدث في الكويت، ولكن نقاشات طويلة أفضت هذه المرة إلى موقف إجماعي على مشروع «المغامرين» وبعد ذلك بأيام جرى توقيت ميعاد أول عملية عسكرية ضد إسرائيل، فكان يوم 31 كانون الأول (ديسمبر) 1964.
وفي هذا اليوم ستعبر مجموعات من المغاوير، المكونة في الضفة الغربية وغزة ولبنان الحدود الإسرائيلية سراً، لتقوم بغارات على عدة مواضع ضد أهداف عسكرية واقتصادية، ولاسيما ضد المنشآت المرصودة لتحويل مياه الأردن إلى الدولة اليهودية. غير أنه جرى توقيف فريق غزة بالكامل من قبل دوائر الأمن المصرية قبل موعد العملية بأسبوع. فالواقع، هو أن عميلين ناصريين أفلحا في التسرب إلى داخل الفريق. بيد أن المحافظة على السر تمت بصورة أفضل في الضفة الغربية ولبنان، حيث تمكن فدائيونا من إنجاز مهماتهم ـ وقاموا بحوالي عشر عمليات ـ بنجاح. ولم يوقعوا خسائر هامة بالعدو، فذلك لم يكن على أية حال هدفنا الأساس. كنا نسعى إلى إخراج عمل صارخ مذهل يصعق مخيلة الإسرائيليين، الذين كنا نريد أن نبلغهم وندلل لهم على وجودنا كفلسطينيين يسعون إلى تدعيم إرادة الصراع بصورة مستقلة، استقلالاً ذاتياً عن الأنظمة العربية، التي قذفنا في وجهها هذا التحدي، وأخيراً تدعيمها أمام الرأي العام العالمي الذي كان يجهل أو يتجاهل قدر ومصير شعبنا.

Comments are closed.