فلسطيني بلا هوية لـِ صلاح خلف.. تتمة (2) سنوات الحمل

فلسطيني بلا هوية
صلاح خلف
تتمة
(2) سنوات الحمل

كانت الشراسة التي تحملها السلطات لي، تظهر أحياناً في صغائر. ففي شهر تموز (يوليو) 1954 كنت عضواً في الوفد الذي يرأسه ياسر عرفات، والذي كان ينبغي أن يسافر إلى فرصوفيا لحضور مهرجان للاتحاد الدولي للطلاب، إلا أنني أوقفت قبيل مغادرة الوفد بساعات. كانوا يرون أنني «خطر جداً» وأخطر من أن يأذنوا لي بمغادرة البلاد، فكان أن تظاهر عدد من الطلاب الفلسطينيين مثيرين الكثير من الضجيج ضد هذا التعسف، مطالبين بإعادة تأشيرة الخروج إلي، ولكن ذلك ذهب عبثاً. ولم يطلق سراحي إلا بعد ذلك بسبعة وثلاثين يوماً، وبعد عودة الوفد إلى القاهرة. ولم أكن في تلك الحقبة أكن من التعاطف لجمال عبد الناصر إلا القليل، وكنت أشارك الإخوان المسلمين والشيوعيين الحذر الذي يبدونه إزاءه في بدايات نظامه. وكنت آخذ عليه أنه لم يفعل شيئاً من أجل القضية الفلسطينية. فالغارة الإسرائيلية التي شنت على غزة بتاريخ 28 شباط (فبراير) 1955 وذهب ضحيتها بضع عشرات من الأشخاص، أثارت غضباً عظيماً بين السكان، للرد بنفس الضخامة. وتدفقت حشود المتظاهرين تطالب بالسلاح. أما الطلاب الفلسطينيون في القاهرة، فنظموا اضطرابات ومظاهرات تدعو إلى سقوط النظام علناً. واحتللنا مقر اتحاد الطلاب الفلسطينيين، وتقدمنا ونحن مضربون عن الطعام إلى السلطات بثلاثة مطالب هي: إلغاء نظام التأشيرات المفروضة على الفلسطينيين لدى الدخول إلى غزة أو الخروج منها، إعادة المواصلات الجديدة بين القاهرة وغزة (بعد أن قطعت في بداية المظاهرات)، إقامة تدريب عسكري إجباري يتيح للفلسطينيين الدفاع عن أنفسهم ضد الهجمات الإسرائيلية، ثم طلبنا بين جملة ما طلبناه أن يقوم عبد الناصر بزيارتنا شخصياً لمناقشة شكوانا. وبعد مرور يومين على الإضراب، جرى إبلاغنا بأن عبد الناصر مستعد لاستقبال الوفد الذي نعيّنه. فرفضنا وقلنا بأنه أما أن يجري الاجتماع بحضور كل المضربين ـ وكانوا بحدود المئتين ـ وأما أن لا يكون. فكان أن وافق عبد الناصر ودعانا إلى مكتبه في مجلس الوزراء. وعلى عتبة المبنى تلقتنا قوات أمن ضخمة وجرى تفتيشنا بدقة قبل السماح لنا بالدخول.
وبدأ عبد الناصر حديثه بالتأكيد لنا بأنه يعترف بصحة مطالبنا كلها وأنه سيلبيها بالكامل. والواقع أنه أصدر أوامره في اليوم نفسه برفع القيود الموضوعة على تنقل الفلسطينيين بين مصر وغزة، وبفتح معسكرات تدريب لأعداد فدائيين (إلا أنه لم يف بوعده بالنسبة لهذه النقطة الأخيرة وحسب ما قدر لنا أن نلاحظه على مر السنين، إلا بصورة شكلية). ماذا كان لنا أن نتمنى بعد؟ وعلى هذا فإن الجو لم يلبث أن انفرج واتخذت الأحاديث المتبادلة طابعاً ودياً. وفي نهاية الاجتماع، أعرب عبد الناصر بينما كنا نهم بالخروج، عن تمنيه مواصلة النقاش مع أربعة منا، فكان أن جرى تسمية عبد الحميد الطايع (بعثي) وعزت عوده (شيوعي) وفؤاد أحمد (من حركة القوميين العرب) وأنا، للقيام بهذا الحوار الثاني. واستبقى عبد الناصر إلى جانبيه لطفي واكد ـ وهو أحد كبار معاونيه ـ وكمال الدين حسين ـ الذي عمل وزيراً عدة مرات، وعلي صبري الرئيس العقيد لمجلس الوزراء. كان رئيس الدولة المصرية يريد أن يعرف المزيد حول اتحاد الطلاب الفلسطينيين، وحول مشاعرنا وتطلعاتنا، وكان سؤاله الأول لنا هو: «هل تنتمون إلى أحزاب سياسية» فكان سؤال غير حصيف، بل سؤالاً خطراً في بلد فرض الحظر فيه على الأحزاب والتشكيلات، واستبدلت بحزب واحد. وسرعان ما فهم خطأه حين أجبناه غير مترددين بأننا لسنا سوى طلبة فلسطينيين ثم دار نقاش أخاذ. ولم نلبث أن أسرنا سحر هذا الرجل الذي تبين أنه وطني كبير. وخلال هذه المحادثة، كشف لنا عن نيته في الالتفاف على الحظر الانتقامي الذي تفرضه عليه القوى الغربية في ميدان التسلح، وذلك بالتوجه إلى مكان آخر «إلى الشيطان نفسه إذا اقتضي الأمر» لتأمين الدفاع عن مصر ضد الاعتداءات الإسرائيلية. وبعد ذلك بشهور أثار حماساً شعبياً عارماً عندما عقد صفقة سلاح مع تشيكوسلوفاكيا، (التي استخدمت كواجهة للاتحاد السوفياتي) وغادرنا عبد الناصر في ذلك اليوم ونحن نؤكد له دعمنا، برغم أن البعض منا لم يفقدوا حذرهم كله إزاءه.
على أن المنعطف الحقيقي حدث في تموز (يوليو) 1956، عندما أعلن عبد الناصر تأميم شركة قنال السويس. فكان أن انفجرت الفرحة لدى الفلسطينيين، الذي أصبح «الريس» بعدها بالنسبة إليهم بطل الصراع ضد الامبريالية. ولقد تأثرنا شأن العرب جميعاً من المحيط الأطلسي إلى الخليج، تأثراً عميقاً بالجرأة وبالتحدي الذي وجهه عبد الناصر إلى انكلترا وفرنسا، فيفصل الإشراف الذي كانت تمارسه هاتان الدولتان العظيمتان على القتال: فإنهما استغلتا مصر بصورة وقحة، منتهكين في الآن نفسه سيادتها. وهكذا فإن عبد الناصر أعاد إلى شعبه حقاً ثابتاً لا يجوز التفريط به، معيداً إلى العرب جميعاً، وبل إلى شعوب العالم الثالث كرامتهم وثقتهم بأنفسهم. بات كل شيء ممكناً، بما في ذلك تحرير فلسطين، وحين عبأنا أنفسنا للدفاع عن مصر ضد العدوان الذي شنته عليها إسرائيل وانكلترا وفرنسا بعد تأميم القنال بثلاثة أشهر، فإننا فعلنا ذلك بحماس، وشكلنا كتيبة كوماندوز، لنقوم بمقاومة العدوان الثلاثي إلى جانب المتطوعين المصريين. فأما ياسر عرفات الذي كان يومها ضابط احتياط، فإنه أرسل إلى بور سعيد حيث ساهم في إطار سلاح الهندسة في عمليات نزع الألغام. أما أنا فقد تطوعت من جهتي في قوى المقاومة الشعبية. كنت مستعداً للقتال، لكن السلطات لم تسمح لي بالذهاب إلى جبهة قنال السويس، فكان علي أن أكتفي بالقيام بمهام دفاعية، كالقيام بالحراسة أمام جسور القاهرة.
أما في غزة، فإن مقاومة المحتل الإسرائيلي، كانت تنظم تحت رعاية الجبهة التي كان قد جرى تشكيلها حديثاً. فقد ائتلف الإخوان المسلمون والشيوعيون والقوميون العرب والبعثيون والناصريون على أساس برنامج عمل مشترك. وقد تبين في البداية أن الاتفاق مع الشيوعيين صعب، لأنهم كانوا يريدون إدخال بند بصدد التعاون مع التقدميين الإسرائيليين وعلى رأسهم الشيوعيون الإسرائيليون لأنهم يعارضون هم أيضاً العدوان الثلاثي: غير أن الأذهان لم تكن ناضجة لمثل هذا الإخاء. ذلك أنه كان ينظر إلى الإسرائيلي ـ كائناً ما كانت أيديولوجيته وقناعاته، كعدو. ثم انتهى شيوعيو غزة إلى تهذيب نصهم وتشذيبه مسهلين بذلك الوصول إلى اتفاق. وقد ساعدنا هذه الجبهة في حدود إمكاناتنا المتواضعة. فكنا ندخل سراً إلى المدينة المحتلة المال، وبعض السلاح. والكثير من المناشير، وإنما بدأنا خلال هذه الفترة التي أثارت فينا من الإحباط أكثر ما أثارت من الرضى بالتطلع ـ رفاقي وأنا ـ إلى مشروع كان يبدو لنا حتى الساعة من قبيل الأحلام. فالوطنيون الجزائريون كانوا قد شكلوا منظمة تخوض الصراع ضد الجيش الفرنسي منذ سنتين، فكانت المعركة البطولية التي كنا نتابعها عن كثب، تذهلنا وتملأ نفوسنا إعجاباً. وطوال سهرات طويلة كنا نطرح على أنفسنا مسألة ما إذا لم يكن في وسعنا نحن كذلك أن ننشئ حركة واسعة تكون ضرباً من الجبهة التي تضم الفلسطينيين من جميع الاتجاهات، وينتمون إليها بصفة فردية، بغرض إشعال الكفاح المسلح في فلسطين.
ففي سنتي 54-1955 جرت بعض غارات الكوماندوز ضد إسرائيل إلا أنها كانت تقاد جميعها تقريباً من قبل مصالح استخبارات البلدان المجاورة لإسرائيل. فالمخابرات المصرية شكلت هذه المجموعات أساساً من أجل القيام بعمليات تجسس. فكانت تعمل في غزة والأردن تحت قيادة مصطفى حافظ الذي قتل بعد ذلك بواسطة طرد ملغوم أرسلته له المخابرات الإسرائيلية (الموساد). وكذلك كان الأمر في سوريا. كنا نشعر بأنفسنا معنيين قليلاً بالمشروعات التي تميلها مصلحة دولة لا المصلحة الفلسطينية، والتي لا يمكن أن تكون إلا مشروعات عارضة. ولمّا كنا نرتاب في كل الأنظمة العربية، المحافظة منها والتقدمية، فإن تقديرنا كان بأن الكفاح المسلح الذي يستحق هذه التسمية، هو كفاح ينبغي أن يعده وينظمه ويخوضه الفلسطينيون إلى غايته دون أن يكون لهم أي ارتباط بغير شعبهم. وإنما كان أساس ريبتنا وحذرنا هو التجربة . فرفيقنا أبو جهاد مثلاً (خليل الوزير) وهو أحد مؤسسي فتح، وعضو لجنتها المركزية حالياً، نظم عام 1954، غارة ضد إسرائيل انطلقت من غزة، فكان أن أوقفه الأمن المصري فوراً.
إذاً، فقد كنا متفقين على المبادئ العامة التي ينبغي لها أن تحكم حركة أحلامنا، وبانتظار أن نطور هذه المبادئ ونعقلنها، فإننا قررنا أن ننشرها في وسطنا عامدين في الحين ذاته إلى تجنيد الأطر والكوادر التي ستضعها ذات يوم موضع الممارسة. فإنشاء حركة شعبية واسعة وجيش تحرير وطني حقيقي، كان في فترة حرب السويس عام 1956، أفكار غائمة، ستتبلور في أهداف واضحة خلال السنتين التاليتين، ثم تبعثرنا خلال الأشهر الأولى من عام 1957. فياسر عرفات وأبو جهاد ذهبا للعمل في الكويت، ولن يلبث فاروق القدومي (أبو اللطف) الرئيس الحالي للدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية في فتح، أن يلحق بهما بعد ذلك. وأما محمد يوسف النجار وكمال عدوان وأبو مازن، فقد أقاموا في قطر. وأما أنا فقد قررت من جهتي أن أناضل في غزة. كنت مجازاً في الفلسفة وعلم النفس من دار العلوم، وفرغت لتوي من الحصول على دبلوم التربية من جامعة عين شمس. فكان في وسعي أذاً السعي وراء وظيفة في التعليم.
إلا أن سلطات الأمن فهمت أن سعيي وراء العمل في غزة ليس خالياً من الأفكار المسبقة. فقد جرت العادة على أن يسعى الموظفون في غزة إلى الانتقال منها ـ لا العكس ـ إلى القاهرة أو إلى أية مدينة مصرية كبيرة أخرى لتحسين أوضاعهم غير أنني أمام عظيم دهشتي، عُينت أستاذ في مدرسة بنات ـ وهو إجراء استثنائي يتخذ بصورة عامة على سبيل العقاب. فليس ثمة ما هو أزعج بالنسبة لرجل في مجتمع إسلامي تقليدي، من العمل في وسط نسائي.
ولفتُّ نظر مدير التربية الوطنية، إلى أن تعييني مخالف للقاعدة المتبعة التي توصي بألا يعلِّم في مدارس البنات إلا الرجل المتزوج. فأجابني مبتسماً بأن لكل قاعدة شواذها. ففهمت أنهم يحاولون منعي من القيام بنشاط سياسي ما، وذلك بعزلي داخل وسط أكون فيه ضمنياً كمنبوذ.
غير أن مدرسة «الزهرة» بحد ذاتها لم تكن كريهة، ولكنهم أوكلوا إليَّ صفوف الطالبات المعيدات، وهن في الغالب بنات مدللات مزاجيات غير منضبطات. إلا أن عزيمتي لم تثبط. وقررت استغلال الوظيفة التي اشغلها لأقوم بالدعوات السياسية. وماذا تراني سأخسر؟! ورغم أنني كنت أعلِّم اللغة العربية وعلم النفس فقد، دعوت طالبات صفوفي لتشكيل مجموعات تجمعات مدنية كنت أطلق عليها اسم «اللجان الوطنية»، وكن مكلفات بعرض موضوعات للنقاش على مجموع الصف. وبعد ذلك بستة أشهر، أبلغتني مديرة المؤسسة بنقلي إلى ثانوية للصبيان.
ورغم أن ثانوية خالد بن الوليد لم تكن جذابة ولا مريحة، إلا أنني هللت من الفرح. فهي تقع في وسط الصحراء خارج غزة، ويرتادها الأطفال اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في المخيمات القريبة. وأما الصفوف، فكانت ضيقة متهاوية ومكتظة يحشر فيها 60 إلى 70 طالباً في الصف الواحد. فكنا نرتعد من البرد في الشتاء بينما ينفذ المطر إلينا عبر السقف الهش، وبالمقابل، فقد كان كل شيء هناك مؤاتياً للنشاطات السياسية التي كنت أعتزم القيام بها. فطلابي المتحدرون من أوساط بالغة التواضع ويعيشون في ظروف يرثى لها، ويعانون كذويهم من النفي، كانوا يظهرون كما بدا لي ذكاء وحساسية تزيد عن المتوسط. وما زلت أذكر حادثة هزتني. فبعد أن شكلنا لجنة معونة للثورة الجزائرية، طلبت إليهم المساهمة، كل حسب إمكانياته، في جمع المال. فكان أن استجابوا جميعاً للنداء رغم بؤسهم. في غداة اليوم التالي، راحوا يمرون بالتتابع أمام مكتبي، فيضع عليه البعض قرشاً والبعض الآخر قرشين أو ثلاثة. كانت مبالغ زهيدة، إلا أنها كانت تمثل تضحيات كبرى من جانبهم. أخيراً، جاء صبي حدث وهو بادي الإنزعاج، ليضع قميصه الذي لا يملك سواه على مكتبي. واكتفى بأن قال: «لعله يفيد طفلاً جزائرياً».
وفي تلك الفترة (1958) كتبت مسرحية أسمتيها «أيام مجيدة» تقوم حبكتها على رحيل عام 1948. وكان النص يقوم أساساً على ذكرياتي الخاصة، حول رحيل عائلتي في المركب، وكذلك بالطبع على النهاية المأساوية للزوجين اللذين ألقيا بنفسيهما في البحر لاسترجاع ابنهما المتروك في يافا، وقد لاقت المسرحية نجاحاً كبيراً، ومثلت على مدة عدة أشهر في مخيمات اللاجئين في غزة، قبل أن يتم إخراجها في العديد من بلدان الخليج العربية.
كنت بصدد كتابة مسرحية أخرى أيضاً في تلك الفترة، إلا أنها كانت أكثر تبعة وخطورة. كان هدفي التنديد بموقف كل الأنظمة العربية، بما في ذلك نظام عبد الناصر إزاء القضية الفلسطينية، فعمدت إلى مختلف أنواع الحيل مخادعة مني لتشدد الرقابة. واخترت للدور المركزي شخص عباس المهداوي، وهو فوكيي تانفل ( ) النظام العراقي الذي كان قد قام لتوه في بغداد. كان المهداوي يرئس محكمة «شعبية» مكلفة بإرسال المعارضين إلى المشنقة، أما في النص الذي كتبته، فإن المتهمين الماثلين أمام المحكمة، كانوا رؤساء الدول العربية، الذين كان المهداوي يعدد «جرائمهم» باللغة الطريفة التي أشهرته. كانت المسرحية مكتوبة بأسلوب نقدي وتسخر من المهداوي في نفس الوقت الذي تقول فيه حقائق تدركها حساسية الفلسطينيين. وما كان يمكن اتهامي بتعاطي التخريب، لأن المقالات التي يقولها بطلي، كانت استشهادات حقيقية مختارة من مسهبات المهداوي الحقيقي.
ثم إني اتخذت احتياطات أخرى: فقد عرضت على وكيل دائرة دير البلح المسؤول عن القطاع الذي تقع فيه مدرستي، أن يتولى إخراج المسرحية. ولما كان الرجل مولعاً بالمسرح فإنه قبل العرض بحماس. وأخيراً، دعوت حاكم غزة العسكري لحضور حفل الافتتاح، فكان مسروراً من المسرحية التي لم يستبن ازدواجيتها وتضمين معانيها، فأرسل لي بعد ذلك بثلاثة أيام رسالة رسمية يهنئني فيها على جودة النص. غير أنني تلقيت في اليوم نفسه دعوة عاجلة من العقيد كمال حسين المسؤول عن دوائر الأمن في غزة. كان قد شاهد هو أيضاً المسرحية، إلا أنه فهم لثاقب بصره ومعرفته الجيدة بآرائي، الطابع النضالي للمسرحية. فكان ظاهر التصميم على تدفيع ثمن وقاحتي. فاحتججت وأدليت بحسن نيتي وذكرته على سبيل البرهان، برعاية وكيل الدائرة للمسرحية، وبامتداح النص السخي وأقول «أفيكون هؤلاء جميعاً حمقى أغبياء...؟» فصر العقيد كمال الحسين أسنانه ثم قال لي بلهجة قارسة: «صلاح، أنت مراوغ مكار، ولكني سأنال منك وتستطيع الوثوق بي في هذا الصدد» لكنه كان يجهل أسوأ ما في الموضوع، فممارساتي الأدبية لم تكن سوى الجزء الطافي من جبل الجليد، أما الجانب الرئيسي من نشاطاتي خارج التعليم، والذي كان قوامه تجنيد وتنظيم مجموعات من المناضلين، فكان سرياً. وطبقت في هذا النطاق نفس الطرق المتبعة من قبل رفاقي الموزعين في بلدان الخليج. كنا نختار المرشح للتنظيم وفق معايير خلقية وسياسية، كنا نعتبرها ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها: فكان ينبغي للمرشح أن يكون حراً من كل رابط حزبي وأن يتمتع في حياته الخاصة بسلوك لا مأخذ عليه، ثم أننا كنا نطلب إليه كضمان لجديته ووقاره أن يمتنع عن شرب الكحول، وكنا نوفر له خلال فترة الاختيار إعداداً سياسياً مزودينه بين جملة ما نزوده به بالكتب والمقالات.
ثم أننا زيادة في الأمن، اخترنا نمط التنظيم «العمودي» فكان كل واحد منا يرتبط بمناضل واحد، يجند هو بدوره مناضلاً آخر، وهكذا فقد كانت «السلسلة» التي تتكون على هذا النحو، تبدو لنا أقل عطباً من الخلية التي تضم عدة أعضاء في آن معاً. كانت اجتماعاتنا تتم عموماً في المقاهي (كان مقهاي المفضل هو مقهى الكمال الذي عملت فيه أثناء مراهقتي) فكنا نلعب بالنرد والدومينو ونحن نتحدث بصوت خفيض. وكنا نحرر ونطبع منشورات كلما اقتضى الظرف للتنديد بهذا الإجراء القمعي أو ذاك، من الإجراءات التي تتخذها السلطات المصرية. ولكننا كنا نتلافى على وجه العموم أن نلفت الانتباه إلى وجودنا. فمرحلة إعداد الكوادر تقتضي الانكفاء على الذات، والتروي إلى أقصى الحدود. وكنا ـ زيادة في الحذر ـ نوقع على كل منشور باسم مختلف «كشباب الإصلاح» أو «شباب الثأر » مثلاً على أننا كنا متفقين ـ رفاقي المقيمين في بلدان الخليج وأنا ـ على التسمية التي سنطلقها على الحركة التي نريد تأسيسها منذ عام 1958 فتح (حركة تحرير فلسطين) التي تصبح الأحرف الأولى منها ح.ت. ف. إذا ما قلبت فتح. ولكننا كنا عازمين على ألا نستخدم هذا الاسم طالما لم نزود الحركة بالبنى والأنظمة والقيادة المركزية، وهي مهمة سنستكملها في شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1959.
في مطلع عام 1959، طلب مني عرفات أن أبحث لنفسي عن وظيفة مجزية في بلد عربي نفطي، إذ رأى أني كأستاذ في غزة لا يكفي لتلبية حاجاتي المعيشية إلا بجهد جهيد، في حين أن الحركة تحتاج حاجة ماسة ملحة إلى المال ومن جهة أخرى، فإن في وسعنا أن نناضل بحرية أعظم في دول الخليج حيث مصالح الأمن أقل تطوراً، وحيث قادة هذه البلاد أكثر تهيؤاً إزاءنا مما هو الحال في البلدان المحاذية لإسرائيل.
وهكذا، فقد قدمت ترشيحي لشغل وظيفة في دائرة التعليم في قطر، ولكن بعد أن تلقيت جواباً ايجابياً، أبلغت بأن الوظيفة لم تعد شاغرة، وقد بلغتني معلومات عبر أحد رفاقنا ـ أبو مازن ـ الذي يشغل وظيفة إدارية داخل هذه الدوائر، بأن مصالح الأمن المصرية حذرت سلطات قطر من أني كنت «شيوعياً خطراً».
غير أنه لم يمض زمن طويل بعد ذلك، حتى جاء عبد العزيز حسين، مدير التعليم في الكويت، إلى غزة على رأس بعثة مكلفة بتجنيد معلمين، وأثر إجرائه مقابلة معي قبل تشغيلي دون أن يعتد بتقرير الشرطة الذي تلقاه عني، والشبيه بذلك الذي أبلغ لقطر.
ولما كنت متزوجاً منذ فترة قريبة، فإنني قررت مغادرة غزة مع زوجتي الشابة، وعشية سفرنا، جاءني ضابط إلى منزلي ثم وضع أصفاده في يدي دون أن يقدم لي أي تفسيرات، برغم احتجاجاتي، فإنه رافقني حتى مطار القاهرة، ولم يوافق على نزع الأصفاد إلا عند سلم الطائرة التي ستأخذني إلى الكويت. إنه عدوي القديم، العقيد كمال حسين، رئيس إدارة الأمن في غزة، فهو لم يفلح في توقيفي أو في منعي من مغادرة البلاد، فكان حريصاً حرصاً ظاهراً على طيب ذكراي.
يتبع

Comments are closed.