فلسطيني بلا هوية.. الجزء الثاني لصلاح خلف

فلسطيني بلا هوية
صلاح خلف
(2) سنوات الحمل
ملاحظة: لقد قصدتُ في هذا الجزء تصحيح معظم الأخطاء الطباعية والكلامية التي وردت في النص، بناء على طلب زوار الموقع، إذ تركتُ في الجزء الأول تقريباً كل الأخطاء التي وردت فيه، احتراماً للكاتب. لكني واحتراماً لطلبكم وللكاتب أيضاً، سأقوم بالتدقيق تباعاً، كما آمل أن أجد الوقت لتصحيح الجزء الأول. وهذه القصة موجودة مع أخطائها على شكل pdf على الإنترنت.
كانت السنوات التي عشناها في غزة بين أكثر سني حداثتي كآبة. إنها سنوات ريبة ويأس وبؤس. رغم أننا لم نكن في عداد الأكثر حرماناً، ففي حين كان أكثر اللاجئين محشورين في مخيمات كيفما اتفق الحال، ويسكنون في خيام أو أكواخ صفيحية، فإنه كان لنا حظ القدرة على الاعتماد على عائلتنا المقيمة في المدينة. فقد آوانا أحد أعمامي وهو رب عائلة كبيرة ورجل متواضع الحال يصنع هياكل خشبية (طوابير) لأغراض البناء وأسكننا في غرفة محاذية فرش فيها سبع فرشات لينام عليها أبواي وأطفالهما الخمسة. كان المكان كافياً بالضبط لنتمدد وإذا كان أبي يعيش في أمل لا يقام بالعودة في مستقبل قريب إلى يافا. فإنه راح يمدد إقامتنا في مسكن عمي شهراً بعد شهر. وعلى أية حال، فإنه لم يكن يملك الوسائل التي تمكنه من الإقامة في مكان آخر. فعشنا سنتين في اختلاط خانق إلى أن جاء اليوم الذي أفهم فيه عمي والدي أنه بات لشديد أسفه مكرهاً على إنهاء ضيافتنا (فقد لاحظ أن أخي البكر عبد الله بات رجلاً ولم يعد يليق أن نسكن بصورة مشتركة بالنظر إلى أن بناته هو أيضاً بتن صبايا). وثمة مشكلة ثانية طرحت منذ وصولنا إلى غزة. فبالنظر إلى ضآلة عدد المدارس المتوفرة وإلى تدفق اللاجئين، فإنه لم تكن ثمة مؤسسة تستطيع استقبالنا. وقد استلزم الأمر من أبي قضاء عدة أشهر في المساعي والتضرعات والمداخلات قبل أن يفلح في أن يرتب أطفاله الخمسة. ومن الصحيح كذلك أن السلطات المصرية لجأت خلال ذلك إلى وسيلة لتشجيع امتصاص كل الأطفال الذين بلغوا سن الدراسة. كان الأساتذة يتناوبون، بعضهم في الصباح وبعضهم الآخر بعد الظهر، لتوفير التعليم للصفوف المختلفة. فكنا، عبد الله وأنا، مسجلين في الدورة الصباحية التي تبدأ في الساعة السابعة. وإذا لم تكن لدينا الوسائل لاستخدام النقل العام فإننا كنا نذهب إلى المدرسة التي تقع على بعد ثلاثة أو أربعة كيلومترات عن منزلنا سيراً على الأقدام. فقد كنا نستيقظ قبيل الفجر ونبدأ بالسير في الساعة الخامسة والنصف صباحاً، برفقة أطفال آخرين من عمرنا، يسكنون في مخيم اللاجئين الذي يقع بجوار منزلنا.
وذات ليلة من ليالي شتاء عام 48-1949 استيقظنا عبد الله وأنا، على وشوشات محادثة تجري بين أبوينا. كان أبي يشكو ويتأوه. فقد ذهبت جهوده لإيجاد وظيفة، أي وظيفة كانت، هباء. ذلك أن البطالة في غزة كانت على مدى من الاتساع والضخامة بحيث أنه فقدَ كل أمل في كسب معيشته. وكانت المدخرات التي حملها من يافا على وشك النفاذ، فكيف تراه سيُعيل أبناءه الخمسة؟ أما والدتي، فراحت تحاول تطمينه بدون كبير اقتناع.
وفي طريقنا إلى المدرسة في صبيحة اليوم التالي، اتخذنا ـ عبد الله وأنا ـ قراراً بأن نعمل للمساهمة في نفقات المنزل. فما دمنا نغادر صفوفنا ظهراً، فإننا نستطيع العمل بعد الظهر. ولما كنا نعلم أن والدنا لن يقبل مطلقاً بأن ينصرف ولداه القاصران إلى عمل مأجور، فإننا قررنا أن نخفي عن والدينا حقيقة الأعمال التي نقوم بها بعد الدراسة. ومن ثم فقد قمنا سراً بمساعٍ لدى اثنين من أبناء عمومتنا. فكان أن استخدم أحدهما، وهو نجار حرفي شقيقي ككاتب، في حين استخدمني الآخر، وهو صانع يصنع كراسي من السور (وهو نوع من القضبان قريب من الصفصاف) كمتمرن فكدت أجن من الفرح.. ذلك أن أجري الشهري كان يبلغ جنيهين مصريين، وهو مبلغ كان له شأنه في تلك الحقبة، بالنظر إلى أن أجر المسكن على سبيل المثال كان يومها في حدود أربعة أو خمسة جنيهات. ثم إن والدتي انتهت بحكم الأحوال، إلى التكهن بما نقوم به. وكنا نسلمها ما نكسبه فتستخدمه في تأمين نفقات البيت دون أن يعلم والدي بذلك.
وفي تلك السنة، رسب أخي في الامتحان، وترك المدرسة ليصبح ميكانيكياً ويمارس المهنة التي طالما رغب بممارستها. ولم يُطلع والدي على هذا الأمر، الذي كان سيستشعره كمأساة. فقد كان يتحدر من عائلة متعلمين أو من عائلة مثقفين كما يقال في هذه الأيام. فوالده الشيخ عبد الله، وهو رجل دين موقر في غزة، أكمل دراساته العليا في جامعة الأزهر بالقاهرة. أما والدي نفسه، فلم تتوفر له إمكانية متابعة ذات السبيل بسبب العراقيل التي كانت تقيمها السلطات العثمانية لتمتع تعلم العرب، والفلسطينيين منهم بخاصة. ولهذا فإن والدي ـ الذي كان ملماً مجرد إلمام بالقراءة والكتابة، ولم ينس نقص تعليمه ـ كان أحرص بكثير من سواه على أن يكمل أولاده دراساتهم. ثم أن الفلسطينيين عامة، ولاسيما فلسطينيي المنفى، يولون تعليم أولادهم أهمية من الدرجة الأولى، وغالباً ما يرتضون من أجل ذلك القيام بتضحيات جليلة عن طيب نفس. فتلك طريقتهم في ضمان بقائهم داخل وسط غير ودود. وليس من قبيل الصدفة أن يكون في وسع الفلسطينيين المفاخرة بأن لديهم أرفع نسبة من المتعلمين بين كافة الشعوب العربية. ولم يكن لأبي أن يتذمر من شيء فيما يعنيني فقد كان يراني أدرس حتى ساعة متأخرة من الليل، كما أن ورقة علاماتي في نهاية السنة المدرسية الأولى كانت تشهد بنجاحي في الامتحانات. إلا أنه كان يجهل ما كلفتني ترقيتي من الصف من جهود. فالعمل الذي كنت أقوم به لدي ابن عمي صانع الكراسي، كان صعباً بقدر ما كان منهِكاً. ثم إني لاحظت، من جهة ثانية أن أجْري كان يظهر غير كاف، كلما كانت وسائل أبي المالية تتضاءل.
ولما لم أكن أستطيع أن أكاشف أبي، فإني رحت ذات يوم أطلب مشورة ابن عم لي كنت أكن له عاطفة خاصة. كان يملك مقهى كبيراً يدعى مقهى الكمال، فتلقاني بقبول وتعاطف. وبعد أن أصغى إلى سردي لصعوباتنا المالية، عرض عليَّ أن أعمل عنده بأجر يبلغ عشرة جنيهات شهرياً، أي خمسة أضعاف ما كنت أكسبه في ذلك الحين، وكان قوام مهمتي، هو أن أجلس وراء الحاسبة، لأراقب الطلبات بواسطة البطاقات أو «الفيش» التي يعطيني إياها صبيان مؤسسته. وكان يأذن لي أن أحمل معي كتباً مدرسية لكي أستطيع الدراسة أثناء الساعات التي يخف فيها العمل.
كان العرض أكثر من مغر، لكن هل أملك الحق بقبوله؟ فالعمل في مقهى، وفقاً للتقاليد العائلية، هو عمل مشين وممجوج، فهو بشأن العمل في منزل دعارة. وإذا كان لا بد لي من قبول هذه الوظيفة، فهل سأستطيع أن أخفي عملي الشائن هذا عن أهلي طويلاً؟ فمقهى الكمال يقع في وسط المدينة، ورواده كثيرون، ولن يطول بي الحال حتى يتعرف عليَّ هذا الصديق من أصدقاء أبي أو ذاك. وقررت أن أخاطر. فقد كانت المخاطرة محدودة لأني كنت أعلم أنه لم يسبق لأبي أن وضع قدمه في مقهى. كانت أسابيع عملي الأولى في وظيفتي الجديدة صعبة. كنت أمضي ست أو سبع ساعات وأنا أترصد زبائن «الكمال» محاولاً أن لا يشاهدني مُشاهد، خصوصاً عندما كنت أرى وجهاً مألوفاً، على أن والدتي انتبهت وهي الدقيقة الملاحظة، إلى أن شيئاً غريباً حدث في حياتي. وانتهى بي الأمر بعد أن أخضعتني لاستنطاق حسب الأصول، إلى الاعتراف لها بالحقيقة. فكانت بادئ ذي بدء كمن مستها الصاعقة، فبدأت تبكي وتتوسل إليّ لأترك هذه الوظيفة فوراً، فهي تستطيع الاستغناء عن أجري كما قالت، بأن تبيع أساورها، والمال الذي أكسبه لا يعوض مطلقاً الصدمة التي سيتعرض لها أبي إذا ما قدَّر له سوء الحظ، أن يعرف بالعار الذي أوقعته به. إلا أنني صمدت، وفسرت لها بأنه لم يبق يفصلني سوى بضعة أشهر عن اجتياز امتحانات البكالوريا، فأبحث بعد ذلك عن وظيفة أخرى. فكان أن أذعنت والدتي على غير اقتناع، ووعدتني برغم عدم اقتناعها هذا، أن لا تقول لوالدي شيئاً، وعندما كان هذا الأخير يدهش لليسر النسبي الذي كنا نعيش فيه ـ بسب أجري ـ فإن والدتي كانت تزعم بأنها تنفق من ثمن مبيع إحدى أساورها. وبعيد ذلك بقليل، غادرنا منزل عمي لنقيم في مسكن استأجرناه. فبتنا أخيراً في دارنا.
وفي يوم من أيام شباط (فبراير) 1950 وكانت قد مضت ستة أشهر على عملي في مقهى الكمال، حدث الأمر العجيب الذي لم يكن في الحسبان، فقد رأيت أبي وهو يدخل إلى المقهى، ويمر بمحاذاة الحاسبة التي كنت أجلس وراءها دون أن يراني، ثم يتجه نحو طاولة تقع في الطرف الثاني من المقهى الرحب. وبقي جالساً هناك ساعة بدت لي وكأنها دهر كامل. كانت هذه الساعة إحدى أكثر ساعات حياتي قلقاً، حيث كنت مشلولاً من الخوف، فلا أجرؤ أن أتحرك مخافة أن يسترعي ذلك انتباه أبي. ثم نهض أخيراً، وبينما كان يهبط درجات السلم الذي يفضي به إلى المخرج، سمع أحد صبيان المقهى يناديني باسمي. فتوقف في مكانه، ثم استدار، ثم صعد بضع درجات وشاهدني. والتقت نظراتنا لبضع ثوانٍ، عاد بعدها إلى الهبوط وهو رابط الجأش لا يهتز له بنان. وأسرعت إلى ابن عمي صاحب المقهى أقص عليه ما جرى لي، وأطلب إليه أن يتشفع بي عند أبي فرفض رفضاً قاطعاً محتجاً بأنه ليس في وضع يمكنه القيام بهذه المهمة، لأن ذنبه هو ـ في نظر والدي ـ أعظم من ذنبي، فكان عليّ أن أواجه وحدي العاصفة التي تنذر بالوقوع.
ووجدت والدتي تنتظرني عند عتبة الباب وهي ترتجف بكل أعضائها، كانت تود تحذيري بأن أبي «في حالة سعار مجنون من الغضب. فليكن الله في عونك..» أما أخوتي وأخواتي فكانوا خائفين منكفئين على أنفسهم في زاوية من زوايا غرفة الجلوس. وأما أبي الذي كان راكعاً يصلي فقد تجاهلني. ثم بعد أن فرغ من صلاته سألني بلهجة صارمة: «هل تعلم أن سلوكك هو سلوك مخز..؟» فأجبته بأني قبلت العمل في مقهى الكمال لأساعد عائلتي ليس إلا. وكشفت له أني استمعت إلى حديثه مع والدتي لسنتين خلتا حول مصاعبه المالية، ثم قلت له كم أن همومه أشجتني. فقاطعني قائلاً: «كنت أفضل الموت جوعاً على أن أراك تعمل في مقهى». ولست أذكر بعد بما أجبته به تماماً، ولكنه اهتاج فجأة ثم وجه إليَّ ركلة حلّت في صدري، وأحسست أن الأرض تتهاوى تحت قدمي، وأن كل شيء حولي ينهار. فها هو أبي الذي لم يسبق له أن انتهرني في حياته كلها، يضربني. وهو يضربني ظالماً، لأني كنت أعتقد صادقاً أني تصرفت بوحي ضميري، ولخير العائلة كلها. وشعرت بأن كبريائي جرحت، وأن الإهانة أصابتني في أعمق أعماقي. فكانت تلك أول مرة أبكي فيها في حياتي. وبينما كانت دموعي تنهمر، كنت أرقى درجات السلم المفضي إلى سطح المنزل ثم ألقي نفسي في الخلاء.
وأعتقد لدى تدبر هذه الحادثة، أني لم أكن أسعى حقاً إلى الانتحار، والقفزة التي قمت بها لم تكن خطرة على نحو خاص. فبالنظر إلى أن منزلنا كان مؤلفاً من طابق أرضي يعلو قليلاً عن سطح الأرض، فإن المسافة التي كانت تفصل السطح عن الأرض لم تكن تزيد عن مترين أو ثلاثة، كما أن الأرض الرملية التي ألقيت بنفسي عليها كانت رخوة بعض الشيء، بخلاف ذلك فإني اتخذت حيطة بالسقوط على قدمي (الأمر الذي تسبب لي بآلام مزمنة في الظهر تعود إلى التواء في العمود الفقري) وإنما كان سلوكي هذا تعبيراً عن الغضب وطريقة في الاحتجاج ضد المعاملة الظالمة التي عوملت بها بأكثر مما كان فعلاً يائساً.
على أن سقطتي لم تكن أمراً هيناٍ بالكامل، فقد فقدت الوعي بتأثير الصدمة. وعندما عادت إليّ نفسي، رأيت والدتي وأخوتي وأخواتي من حولي وهم مضطربون مشفقون على حالتي، وينتظرون سيارة الإسعاف التي ستنقلني إلى المستشفى الإنكليزي الذي كان أحد أفضل مستشفيات غزة. وسرعان ما لاحظت غياب أبي فهو لم يأت لزيارتي في المستشفى حيث ظللت أعالج عشرة أيام من الممرضات، وبدا لي سلوكه، وهو المحب الشفوق الرؤوف البالغ الطيبة، على قدر لا تفسير له من القسوة. وإنما فهمت ردة فعله بعد ذلك. فهو رجل مشبوب العاطفة على انكماش، حساس وعنيد في آن معاً، ولذا فإنه تأثر تأثراً شديداً من استخفافي بتقاليد وسطنا، وبما كان يعتبره شرف العائلة وحسن أحدوثتها، وهي أفكار كان يرتبط بها بكل أوتار وجوده. وفوق هذا كله، فإنه تأول سلوكي كتحد وقح للسلطة الأبوية التي هي مقدسة كذلك عنده. ثم إنه عقد لدى خروجي من المستشفى مجلساً للعائلة، وأغرب لي عن حزنه ثم طلبي مني التخلي عن عملي في مقهى الكمال. أما والدتي فإنها من جهتها، أخرجت من حافظتها رزمة أوراق نقدية ـ تزيد على المئة جنيه ـ وهي مبلغ ضخم لم تُتَح لي فرصة رؤيته قبل ذلك. فقد باعت كل مجوهراتها كما قالت لي، وستستخدم المال لتلبية حاجات المنزل، للفترة المتبقية من السنة المدرسية التي ينبغي لي أن أنال في نهايتها شهادة البكالوريا. ثم أضافت: وبما أن العائلة باتت بمنأى عن الحاجة، فإنه لم يبق ثمة داع يدعوني لممارسة عمل مأجور. ثم إن أعمامي وأبناءهم ممن كانوا مدعوين إلى الاجتماع، أكدوا لي، واحدهم بعد الآخر، بأنه في وسعي الاعتماد على دعمهم لمتابعة دراساتي العليا إذا كنت راغباً فيها، وقد هزني هذا التضامن الحار فأعلنت على الفور عزوفي عن وظيفة مقهى الكمال.
وسجل عام 1951 منعطفا جديداً في حياتي، فبعد ثلاث سنوات من خروجنا، غادرت غزة إلى القاهرة بقصد الانتساب إلى الجامعة. ووفقاً لما وعدوا به، فإن أقاربي راحوا يكتتبون، كل حسب طاقته، ليزودوني بما أعيش به. وبخلاف مباركة أبي، فإني تلقيت مبلغ خمسين جنيهاً ينبغي لها أن تفي بمعاشي إبان الأشهر الأولى. ثم لإن أبي أوصى بي أحد أبناء عمومته، ويدعى الشيخ يوسف، كان يتابع دروساً في اللاهوت (علم الكلام) في جامعة الأزهر الإسلامية. وجاء الشيخ يوسف إلى المحطة في القاهرة برغم عماه، يسعى في طلبي وعرض علي المبيت في منامة الجامعة. ومنامة الجامعة عبارة عن رواق واسع تصطف فيه الأسِرَّة بمحاذاة بعضها، فلا يفصل السرير عن الآخر سوى منضدة صغيرة. ولما كان أحد زملاء الشيخ يوسف غائباً، فإنه كان بوسعي أن أشغل سريره بضعة أيام إلى أن أعثر على مأوى دائم، فقبلت عرض ابن عمي هذا بطيبة خاطر، رغم أن المنامة الوسخة والتي كانت تنبعث منها رائحة بشعة كانت تنفرني، ثم علقت قميصي ولباسي الذي دسست في جيبه الخمسين جنيهاً التي أعطتني عائلتي إياها، بمسمار. وعندما فتحت عيني في صبيحة اليوم التالي، لاحظت أن ثيابي اختفت. إستولى عليَّ الذعر، وهززت الشيخ يوسف الذي كان ما يزال نائماً لأستوضحه عما حل بثيابي، إلا أنه لم يكن يعلم أكثر مما أعلم، ثم لم يطل بنا الأمر لندرك أن أمتعتي سرقت. وأخذ علي ابن عمي غفلتي مشيراً إلى أنه يحتفظ بأمتعته تحت فراشه. فكان من البديهي أن مؤسسة الأزهر الموقرة ـ خلافاً لما يتبادر إلى الذهن ـ لم تكن موئل النزاهة الأسمى. ووجدتني منهكاً مدحوراً، فلازمت سريري ملازمة شبه كاملة طوال عشرة أيام. كنت لا أملك مليماً واحداً وليس لدي ما أقتات به، أو أسكن فيه أو ألبسه. ولم يكن عندي بخلاف ثيابي المسروقة سوى «دشداشة» وهي ضرب من ثوب تقليدي، وما كنت ألبسه على أي حال، إلا في البيت، فبدا لي مستقبلي حينها كأحلك ما يكون، إذ لم يكن في الوارد أن أستطيع متابعة دراستي، ذلك أن مجانية التعليم لم تكن قد أدخلت إلى الجامعات المصرية بعد. ولسوء حظي، أن المساعدات التي كانت تصرفها الجامعة العربية للطلاب الفلسطينيين، قد أوقفت لأسباب اقتصادية.
كان أبي قد أشار عليَّ أن أقصد السيد الكاشف، وهو أحد أقاربه الأقربين، وتاجر ثري من قرية العملي (في منطقة تل أبيب) هاجر قبلنا ببضعة أشهر. وكان يسكن مع عائلته في حي من أحياء القاهرة السكنية، إلا أني امتنعت عن زيارته في لحظة الحاجة والعوز، بدواعي الكبرياء. وإنما قدر لي بعد ذلك بسنوات وبعد أن أصبحت مدرساً، أن أتزوج ابنته.
عرض عليَّ الشيخ يوسف حينذاك الالتحاق بجامعة الأزهر التي كانت توزع معونات على الطلبة المحتاجين من الأموال التي كانت تضعها المؤسسات الخيرية بتصرفها. كان هو نفسه يسكن بالمجان وينال مخصصاً شهرياً بقيمة أربعة جنيهات. فأبيتُ عرضه هذا بأدب، دون أن أقول له كم كنت أنفر من التعليم ذي الطابع الطائفي. ولكنني من جهة أخرى اقتنعت بتقديم طلب للحصول على منحة من دار العلوم، وهي ضرب من دار المعلمين العليا. ويقيناً أن دار العلوم لم تكن تستجيب للمثال العلماني الذي ارتضيته لنفسي، لأنها كانت وثيقة الصلة بالأزهر. إلا أنها كانت تشتمل على دروس أخرى أشغف بها غير علم الكلام: كاللغة والأدب العربي والفلسفة وعلم النفس. كانت المنحة المتمناة تبلغ أربعة جنيهات، وهو مبلغ متواضع إلا أنه كان يتيح لي أن أعيش وأن أواصل دراستي. غير أن دار العلوم لم تكن تقبل كل من يتمنى الدخول إليها، فكان عليَّ أن أجتاز مباراة مشهورة بقسوتها، وكان الامتحان في مادة الأدب العربي، وهو ميدان كان شبه مجهول ضمنياً بالنسبة لي. ومع هذا فقد قررت أن أجرب حظي. وهكذا، فقد مثلت أمام اللجنة الفاحصة شأن 500 مرشح آخرين. وبدأ رئيس اللجنة، وهو شيخ من جامعة الأزهر بمسائلتي حول ديوانَي شاعرين شهيرين كنت أجهل ـ كما اعترفت له ـ حتى إسميهما. ثم قررت أمام ذهول الممتحن أن ألعب أوراقي كاملة. فقلت له: «أن لك أن تسقطني، ولكن اسمح لي بادئاً أن أعرض لك معتقدي في جامعة الأزهر التي تمثلها هنا». ثم سردت عليه قصة سرقة نقودي وثيابي ثم أنهيت حديثي بهذه الكلمات «أنه لم يبق لدي ما أفقده سوى الدشداشة التي ألبسها».
وتَركت مقالتي المسهبة هذه الشيخ وهو فاغر فاهه. وبعد صمت بدا لي وكأنه لن ينتهي، سألني أحد زميليه الآخرين الدكتور حسن جاد ـ الذي لا يمكن أن أنس طيلة العمر اسمه، لشدة ما أنا مدين له، وقال بلهجة المتواطئ معي: «ولكني مقتنع بأنك تعرف الكثير عن الشعر الفلسطيني» فتلقفت ريمته، وبدأت أنشد ثم أحلل أشعار معين بسيسو الذي سيفرض نفسه بعد ذلك كأحد أفضل شعراء المقاومة، وربحت. كانت وجوه الممتحنين الطلقة المنفرجة تشير إلى أني سأقبل دار العلوم. وبعد ذلك بأيام غادرت منامة الأزهر المشؤومة خذلاناً، وقايضت الدشداشة بقميص وبنطلون. كان دخلي الشهري لا يسمح لي بأن أستأجر غرفة، ولكن أصدقاء فلسطينيين دعوني إلى مشاركتهم مسكنهم دون مقابل. فالتضامن ليس كلمة لا طائل فيها لدى فلسطينيي المنفى والخروج. وإذ لم أتلق أية معونة من أهلي، فإني عشت على هذه الحال سنتين لدى أصدقاء أصبح بعضهم فيما بعد ذلك بسنوات مناضلين في فتح. وذات يوم، تلقيت حوالة بريدية من أبي. كان المبلغ هائلاً، فقد عثر على عمل في العربية السعودية، بعد أن استخدمه مقاول كبير هناك، هو حامد أبو ستة الذي يشغل اليوم عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فأرسل إليَّ أجر أول شهر عمله عنده.
وعام 1951 ليس عام الانفصال عن العائلة وبدايات حياة الطالب وحسب، بل كان إلى ذلك نقطة المنطلق في عملي النضالي الذي لم ينم عن التطور والنمو منذ ربع قرن. ولا ريب في أن انتسابي إلى «أشبال» النجادة في يافا، يشكل صيغة التزام سياسي، إلا أن الظروف وحداثة سني منعتني من أن أشارك مشاركة فعالة متواصلة في المعارك التي كان من يفوقوني سناً يخوضونها، أما في غزة، فلم انقطع رغم الصعوبات المادية والهموم العائلية، عن الاهتمام اهتمام شديداً بتطور المشكلة الفلسطينية. غير أن الحركة الوطنية كانت قد خدمت ضمناً تحت تأثير الاندحار العربي واليأس الذي تلاه ولم يبق سوى بضعة زعماء تقليديين بائدين يحاولون بعثها عبثاً تحت كنف الجامعة العربية، تلك المنظمة الحجرية التي تتلاعب بها الأنظمة الرجعية العربية المرتبطة بالامبريالية والتي قليلاً ما كانت على استعداد لدعم القضية الفلسطينية. كان الاحتقار والغضب كإرادة التمرد والنهوض ضد النظام القائم تعتمل في نفسي. ولم تلبث الفرصة حين أثار قرار الجامعة العربية في خريف عام 1951 بإلغاء المخصصات التي تدفع للمحتاجين من الطلبة الفلسطينيين، أن أثارت سخطاً محقاً بين صفوف هؤلاء الآخرين. وسرعان ما رميت بنفسي في المعترك وشاركت بالمظاهرة التي نظمت أمام مقر الجامعة العربية الذي احتليناه، واقتحمنا عنوة مكتب أحمد الشقيري الذي كان يشغل حينذاك منصب الأمين العام المساعد المكلف بالشؤون الفلسطينية، وأتلفناه. وقد تكلل عملنا هذا بالنجاح. وأعيدت معونة الطلاب إلى سابق ما كانت عليه. غير أن البوليس أوقف قادة المظاهرة وأودعهم سجن عابدين القريب من قصر الملك فاروق، وكان من الوارد تماماً أن أُبعَد إلى غزة، إلا أن الأزمة التي كان يجتازها النظام الملكي، جعلت السلطات تعدل عن مشروعها، فأفرج عني بعد 49 يوماً.
وفي هذه الحقبة، التقيت للمرة الأولى بطالب يدرس في كلية الهندسة عمره 22 سنة، ويكبرني بأربع سنوات ويتمتع بطاقة ونشاط وحماس وروحية مغامرة، أسرتني وجذبتني إليه: إنه ياسر عرفات، الذي سيتعرف عليه الرأي العام العالمي بعد ذلك بخمس عشرة سنة باسمه الحركي: أبو عمّار، كان ياسر يومها مسؤولاً عن التدريب العسكري لطلاب الهندسة الراغبين في الاشتراك بالأعمال الفدائية ضد البريطانيين في منطقة قناة السويس. وبخلاف ذلك فإنه كان يناضل، شأني أنا، داخل اتحاد الطلاب الفلسطينيين الذي كان يضم زملاءنا الطلبة ممن ينتمون إلى مختلف النزعات السياسية: الإخوان المسلمون، الشيوعيون، البعثيون، القوميون العرب (أي الحزب الذي يعتبر جورج حبش أبرز مؤسسيه) إلخ..
وبصورة أعم، فإن الفلسطينيين كانوا يعشقون الأحزاب العروبية ـ يمينية كانت أم يسارية ـ ويعقدون عليها آمالهم كلها نظراً لأنه لم يكن في مستطاعهم الاعتماد على حزب أو تشكيلة محض وطنية تقف نفسها على تحرير فلسطين، فلم تكن مختلف الإيديولوجيات التي اعتنقوها بالنسبة إليهم ـ سواء وعوا ذلك أم لم يعوه ـ إلا ناقلة ينبغي أن تصل بهم في نهاية المطاف إلى الهدف المشترك.
إلا أنني، شأن ياسر عرفات، لم ألتحق بأي حزب سياسي، كنت أتعاطف بلا ريب مع الإخوان المسلمين الذين سبق لي أن رأيتهم يعملون في غزة. فقد كان بينهم وعّاظ يعتمدون على العكس من العلماء التقليديين، لغة نضالية متحمسة يسهل تناولها على عامة الناس. فكانوا يدعون المؤمنين إلى الكفاح، رافعين من معنوياتهم لحظة كانوا أحوج ما يكونون فيها إلى ذلك. وكان مما اجتذاب التعاطف معهم، هو أن كثيراً من محاربيهم كانوا مطارَدين مضطهدين وسجناء لدى السلطات المصرية. وكانوا يعرفون كيف يموتون من أجل مثلهم، فقد استشهد عدد منهم في السنوات الممتدة بين 1950 و1952 بينما كانوا يخوضون أعمالاً فدائية ضد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة قنال السويس. إلا أنني ـ بالرغم من كل هذا، لم ألتحق بصفوفهم. صحيح أنني كنت حفيد شيخ، وأن أبي مسلم لا يقطع فريضة، إلا أن تسامح وسطي وبيئتي، العميق، أبعدني عن أيديولوجية الإخوان المسلمين. وبخلاف ذلك، فإن ميولي الطبيعية كانت تحملني على أن أنضم إلى ركب قومية علمانية ما يزال علينا أن نوضح شكلها وجوهرها.
ولم تكن لدينا أفكار مسبقة بهذا الصدد، لا ياسر عرفات ولا أنا، إلا أننا كنا نعلم على الأقل ما هو مضر بالقضية الفلسطينية. كان تقديرنا هو أنه ليس لأبناء وطننا أن ينتظروا شيئاً من الأنظمة العربية الفاسدة في معظمها أو المرتبطة بالإمبريالية، وأنهم يخطئون بالمراهنة على الأحزاب السياسية القائمة في المنطقة. وكنا نعتقد كذلك أن على الفلسطينيين أن لا يعتمدوا أساساً إلا على أنفسهم. وهكذا فقد قررنا عام 1952 مباشرة هذه الفكرة الأساسية بتقديم ترشيحنا إلى قيادة اتحاد الطلاب الفلسطينيين، وهو الهيئة الوحيدة التي كانت تمارس في داخلها انتخابات ديمقراطية، وعلى هذا، فإن اتحاد الطلاب الفلسطينيين كان التشكيل الوحيد الذي يسعه أن يدعي أنه يمثل قطاعاً ما من الرأي العام الفلسطيني.
كان مشروعنا يشتمل على مخاطر بينة. فمعظم الطلبة كانوا أعضاء أو متعاطفين مع الأحزاب السياسية التي لم نكن غير منتمين إليها وحسب، بل كنا نأباها. وهكذا فقد وجهنا ما يشبه التحدي إلى كل المرشحين المقدمين من قبل أحزاب وتشكيلات تتمتع، وبدرجات متفاوتة، من المهابة والوسائل المادية والنفوذ.
إلا أنه من الصحيح كذلك أنه لم تكن تعوزنا نحن أيضا الأوراق الرابحة ذلك أننا أفلحنا، ياسر عرفات وأنا، في إقامة علاقات جيدة مع كل الطلاب دون تمييز لانتماءاتهم السياسية، فقد كنا أبداً على رأس معاركهم، مستعدين لكل التضحيات.
ولم نكن نقدم أنفسنا كأخصام للأحزاب، بل كأنصار «الاتحاد الطلابي» وهو الاسم الذي أطلقناه على لائحة مرشحينا التي كانت تشتمل على تسعة أسماء مرشحة لملء المقاعد التسعة في اللجنة التنفيذية. كان ستة منهم ينتمون إلى فريقنا (منهم عرفات وأنا) أما المقاعد الباقية فقد أسندناها إلى الفئات الأخرى: واحد من الإخوان المسلمين، وآخر شيوعي، وثالث بعثي، وبهذا أظهرنا روحيتنا الديمقراطية والوحدوية. وتبين أن حساباتنا كانت صحيحة، إذ أن لائحتنا انتخبت بأغلبية ساحقة من الأصوات. وظهر أن الطلاب يتطلعون قبل كل شيء. وبرغم معتقداتهم الأيديولوجية إلى عمل وحدوي. وقد احتفظ ياسر عرفات الذي عين رئيساً لاتحاد الطلاب الفلسطينيين بمنصبهم هذا إلى حين إنهائه دراسته الجامعية عام 1956، فكان أن خلفته على رأس التجمع بعد أن ظللت مساعده طيلة أربع سنوات.
وبعد انتخابي بشهرين، أي في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1952، ثار النزاع مع الجامعة العربية مجدداً، بعد أن قررت الجامعة مرة أخرى إلغاء المساعدات التي كانت تدفعها للطلاب الفلسطينيين. فكان أن بدأنا، كما في الخريف السابق، إضراباً عاماً، في حين أن كثيرين منا احتلوا مقر الجامعة. غير أن المسؤولين هذه المرة لم يتراجعوا واستدعوا قواعد الأمن التي لجأت بطردنا إلى استخدام العنف. وبينما تم توقيف تسعة عشر فرداً منا، فإنني أفلحت مع كثيرين آخرين بالإفلات. وبعد ذلك بقليل أبلغ الأمن اتحاد الطلاب الفلسطينيين بأنه لن يطلق سراح رفاقنا إلا إذا استسلمت أنا للعدالة، وهو ما فعلته بناء على نصائح ياسر عرفات الذي كنت قد التجأت إلى شقته في ضاحية مصر الجديدة. كان الأمن يسعى أن يذل «المغامر» الذي كنته في نظره: فحجزت في قسم الموسمات بسجن عابدين، ثم أطلق سراحي بعد ذلك بـ 35 يوماً بناء على تدخل شخصي من أحمد الشقيري.
وقد حاول الشقيري أن «يسترجعني إلى الحظيرة» بأن رتب مقابلة بيني وبين صلاح سالم، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة التي كانت استولت على السلطة قبل ذلك بأربعة أشهر. ومع أن مقابلتي مع صلاح سالم أطرتني إلا أنها لم تنل بشيء من إرادتي بمتابعة المعركة، ولا من إرادة السلطات الناصرية في تحطيم إرادتي.
يتبع

Comments are closed.